د. أميرة فؤاد النحال تكتب: هنية.. حارس الوصايا الثقيلة للياسين والرنتيسي

profile
  • clock 2 أغسطس 2025, 11:54:34 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

كنتُ في سنتي الثالثة بالجامعة الإسلامية حين دوّى الخبر الذي هزّ غزة: اغتيال الشيخ أحمد ياسين أثناء عودته من صلاة الفجر، ذلك الصباح لم يكن كأي صباح؛ المدينة كانت تمشي مثقلة بالصدمة، والقلوب تعرف أن مرحلة جديدة بدأت بدم الشيخ المؤسس.

نظّمت الجامعة الإسلامية بغزة حفل تأبين يليق بمقامه، واحتشدنا في ملعبها الكبير، نتنقّل بين صور الشيخ ولافتات العزاء، نبحث عن عزاءٍ في وجوه بعضنا، كان المشهد أكبر منّا جميعاً، وفي تلك اللحظة كنا ننتظر الكلمة المزلزلة للرئيس الجديد لحماس، الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وقد اعتلى المنصة بصفته الخليفة المباشر للياسين.

من يعرف الرنتيسي يعرف صوته الهدّار وخطاباته الرنانة، لكن تلك اللحظة كانت مختلفة؛ كان يقف على منصة الشهادة، يحمِل إرث الياسين ويخاطب شعباً تحت النار، وحين دوّى صوته كالأسد الهصور، جاءنا بوعد ووصية ووعيد :"لو رحل الرنتيسي والزهار وهنية ونزار ريان والجميع… والله لن نزداد إلا لحمةً وحبّاً، نحن الذين تعانقت أيادينا على الزناد في الدنيا، وغداً ستتعانق أرواحنا في رحاب الله".

تلك الكلمات حفرت نفسها في ذاكرتي كما لو كانت عهداً شخصيّاً، وأنا أقف بين الجموع، أستشعر رهبة اللحظة وحرارة الوصية، فلم يكن ذلك تأبيناً عادياً، بل كان إعلاناً بأن المقاومة تورث دمها ووصاياها قبل أن تورث مواقعها.

لم تمر سوى خمسة وعشرين يوماً على ذلك المشهد المهيب في ملعب الجامعة الإسلامية، حتى تكررت الفاجعة على نحو يوجع الذاكرة؛ خبر عاجل يقتحم البيوت ويثقب القلوب: استشهاد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي في قصف صهيوني استهدف سيارته في شوارع غزة، وعادت أقدامنا إلى نفس الملعب، إلى نفس المنصة التي لم تُنزَل منذ تأبين الشيخ الياسين، أتذكر أنني دخلت حرم الجامعة بخطوات ثقيلة، وبين جدرانها علّقت عشرات الصور للرنتيسي، وفور أن وقعت عيني على إحداها، وجدتني أقف في جمودٍ عجيب؛ كأن الصورة تتنفس، وقطرات العرق تلمع على جبينه، وأنفاسه تتسارع بعد رحلة شاقة من الجهاد، كانت لحظة اختلط فيها وجع الفقد بشرف الانتماء، وأدركت أن قيادة حماس تكتب فصولها بالحبر الأحمر وحده.

لم تُعلن الحركة عن قائدها الجديد في ذلك الوقت؛ كانت تعلم أنّ رصاص الاحتلال يطارد الأسماء كما يطارد الظلال، ولكننا كنّا نرى في الميدان أن الوصايا حيّة، والقيادة لم تغب، وإن توارت خلف السرية الثقيلة، ذلك الفراغ لم يكن فراغاً حقيقياً، بل كان فراغ الصدمة الذي سرعان ما ملأته عزيمة الميدان وهدوء القيادة التي تُعيد ترتيب الصفوف بعيداً عن الأضواء.

منذ تلك اللحظات، تبلورت أمام أعيننا مدرسة القيادة الممهورة بالدم؛ قيادة تعرف أن موقعها على لائحة الاغتيال ليس نهاية، بل بداية لمرحلة جديدة من المقاومة، ومن بين تلك الظلال كان يلمع اسم إسماعيل هنية، الذي لم يعلن قائداً رسمياً يومها، لكنه صار في وعي الميدان حارس الوصايا الثقيلة ووارث طريق الشهداء.

بينما كانت غزة تلملم جراحها بعد رحيل الرنتيسي، كانت القيادة تتنفس خلف ستار السرية، فلم يكن اسم إسماعيل هنية يعلَن رسمياً يومها، لكننا كنّا نراه بين الصفوف والمنابر والميدان، قائداً صامتاً في زمن الضجيج، يحرس خط النار ويمسك بخيوط الداخل والخارج بحذرٍ وصبرٍ طويل.

أتذكّر مرة سمعت فيها صوته في مهرجان جماهيري بعد الاغتيالات الكبرى؛ كنت أقف بين الحشود، أستعيد رهبة منصة التأبين، فإذا بصوته يخرج هادراً حازماً، يرسل رسالةً بحجم التاريخ: "لن نعترف بإسرائيل"، فلم يكن تصريحاً عابراً، بل طلقة سياسية خرقت معادلات المنطقة، رسالة إلى العواصم البعيدة قبل أن تكون تهديداً للعدو القريب، ويومها شعرت أنّني أقف على عتبة لحظة نادرة، لحظة ترى فيها قائداً يترجم الوصايا إلى سياسة، والسياسة إلى رصاص محتمل.

لم يكن إسماعيل هنية قائداً تقليدياً يرفع صوته في كل موقف أو يلهث وراء الأضواء، بل كان مزيجاً فريداً من الهدوء العلني والحركة الخفية، كان يطلّ على الجماهير بابتسامة ثابتة ونبرة متزنة، بينما تُدار خلف الستار حسابات دقيقة تُوازن بين أعباء الميدان وتعقيدات السياسة، هذا المزاج الهادئ لم يكن استكانة، بل كان غطاءً لصلابة لا تنكسر؛ إذ جمع بين رجل المنبر الذي يعرف كيف يخاطب شعباً تحت النار، ورجل الميدان الذي لا يسمح للكلمة أن تُفصل عن دماء الشهداء، ومن بين حصارٍ خانق أراد أن يخنق غزة، صنع مساحةً جديدة للمناورة، حوّل فيها الضيق إلى رافعة نفوذ إقليمي، حتى غدت غزة – رغم نزيفها – مركز ثقل يُعيد رسم إيقاع الاشتباك مع الاحتلال، في شخصيته اجتمع ما كان يظنه البعض متناقضاً: اللين في الهيئة، والصلابة في الموقف؛ الصمت في العلن، والجرأة في القرار؛ حتى صار نموذجاً لمدرسة قيادة تُبنى على رصانة الكلمة وصلابة البندقية في آن واحد.

كنت أشعر، وأنا أرى هنية على المنصة أو أتابع تصريحاته، أنني أمام قائد يعرف أن المعركة أطول من أعمار القادة، كان قائدٌ يربّي جنوده على قاعدةٍ واحدة: "إن رحلنا، فالوصايا على أكتافكم، والبنادق على الزناد"، ولذلك صارت قيادة هنية جسراً بين دماء الياسين والرنتيسي واستمرارية الميدان، مدرسةً توازن بين الرصاص والكلمة، السرية والعلنية، الحصار والمناورة

مرت السنوات، وكبرت غزة على الجراح، لكنّ صورة ذلك الشاب القائد الذي كان يقف على المنصات بهدوئه المهيب لم تفارق ذاكرتي، كلما تابعت مشاهد الميدان، شعرت أن هنية لم يكن مجرد قائد مرحلة، بل حلقة حيّة في سلسلة مقاومة لا تنكسر، في كل اغتيالٍ جديد لقائدٍ من قادة القسام، كانت وصايا الياسين والرنتيسي تعود حارّة كما سمعناها أول مرة، وكنت أراقب هذا التكرار الموجع بفخرٍ وحزنٍ معاً: رحيل الأجساد لا يوقف سيرة المقاومة، بل يضاعف حضورها، حتى حين يغيب القائد، تبقى كلماته على المنصة تسكن أذن الميدان وتعيد توجيه البوصلة.

رحيل هنية لم يُغلق صفحة من صفحات المقاومة، بل فتح باباً أوسع لخلودها، فقد ترك خلفه ما هو أثبت من موقعٍ تنظيمي أو لقب سياسي؛ ترك مدرسةً قائمة على وصايا الدم، حيث تتحول كلمات المنصة إلى عقيدة يومية، ويصير الخطاب الجماهيري جزءً من عدّة المقاتل في الميدان، ولم يكن خلوده في صورته أو في اسمه فحسب، بل في قدرته على أن يجعل من كل جولة مواجهة امتداداً طبيعياً لمسيرة الياسين والرنتيسي، وحتى بعد غيابه ظلّت غزة تتصرّف كما لو أنه حاضر بين صفوفها، تُقاتل وتفاوض، وفق القاعدة التي أرساها: أن القيادة زائلة، لكن المقاومة باقية، ومن هنا صار اسم هنية ليس مجرد فصل في كتاب المقاومة، بل خيطاً ناظماُ يربط دماء المؤسسين بالرصاصة التي لا تزال تخرج من غزة حتى اليوم.

مدرسة هنية صنعت خلود السيرة المقاومة في ثلاثة أبعاد:

 استمرارية الميدان: البنادق لم تصمت يوماً، بل ازدادت تنظيماً وانضباطاً.
 ذاكرة المنصة: خطاباته حملت وصايا الدم وربطت المقاتل بالجمهور، والسياسة بالرصاص.
 إعادة إنتاج المقاومة: كل اغتيالٍ كان إعلان ولادة لمرحلةٍ أشد صلابة.

وأنا أستعيد تلك اللحظات من سنوات الجامعة، أدرك أنّ هنية ترك خلفه ما هو أعظم من اسمه: ترك مدرسة قيادة لا تُقاس بعدد التصريحات أو صور المهرجانات، بل بعدد البنادق التي واصلت إطلاق النار بعد رحيله، وفي آخر مرة وقفت فيها أمام صورة شهيدٍ في حرم الجامعة الإسلامية، شعرت أن المكان نفسه صار محراباً للذاكرة؛ صور القادة تراقبنا، وعيونهم كأنها تقول: أكملوا الطريق.

برحيل إسماعيل هنية، لم تخسر المقاومة قائداً بقدر ما رسّخت معادلة البقاء بعد الغياب، لقد أثبت أن المشروع المقاوم لا يُختزل في الأفراد مهما كانت رموزيتهم، بل يقوم على منظومة تعيد إنتاج نفسها بالدم والتجربة، ترك هنية وراءه ما هو أبعد من الوصايا؛ ترك بنية صلبة تجعل الفراغ مستحيلاً والانكسار وهماً، وحوّل غياب القائد من تهديد إلى فرصة لتجديد القيادة وتحصين الميدان.

لقد أعاد هنية تعريف وظيفة القيادة في زمن الاحتلال: ليست إدارة اللحظة فحسب، بل هندسة الوعي الجمعي على أن المقاومة قدر لا يُلغى باغتيال ولا يُكسر بحصار، ولهذا، فإن كل صاروخ ينطلق من غزة لا يحمل فقط دوي الحديد والنار، بل يوقّع باسم مدرسة كاملة من القادة الذين أثبتوا أن موتهم لا يعني نهاية المعركة، بل بدايتها المتجددة.

إن الأرض التي أنجبت الياسين والرنتيسي وهنية تعرف جيداً معادلتها الوجودية: يمضي القادة بأجسادهم، وتبقى المقاومة هي القائد الحقيقي، ويبقى مشروعهم أعند من الصواريخ التي أطلقوها، ورسّخ هنية بدمه أنّ اغتياله لم ينهِ المعركة، بل ثبّت القاعدة بأنّ كل اغتيال هو ولادة جديدة للمقاومة.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)