بين البقاء والرحيل

شهادة أم مسيحية من بيت لحم: الاحتلال صادر حتى حق السؤال من أطفالنا

profile
  • clock 27 أغسطس 2025, 7:59:58 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
شهندة نصار، الأم الفلسطينية المقيمة في بيت لحم

متابعة: عمرو المصري

تجلس شهندة نصار، الأم الفلسطينية المقيمة في بيت لحم، أمام ابنتها البالغة من العمر ستة عشر عامًا، حين تطرح الطفلة سؤالًا قاسيًا: لماذا لا نترك كل هذا ونرحل؟ السؤال الذي يبدو بسيطًا يخفي وراءه عواصف من الألم. فالأم، التي تعمل إدارية في جامعة بيت لحم وتربي ثلاثة أطفال، تجد نفسها ممزقة بين واجب الحفاظ على وجودها المسيحي في المدينة المقدسة وبين عجزها عن حماية أبنائها من الاحتلال وجبروته. تقول شهندة بمرارة: "لسنا أحرارًا، نحن تحت الاحتلال، وهذه حقيقة لا يفكر فيها العالم. لا أستطيع أن أؤمّن الحماية لأولادي، وهذا يمزقني كأم."

لا تتوقف معاناة العائلة عند حدود القلق اليومي. فالحياة في الضفة الغربية أصبحت ضربًا من الاحتمال المستحيل: انسداد في الفرص، حرمان من الحقوق الأساسية، بطالة مرتفعة، وحواجز عسكرية تخنق أي محاولة لحياة طبيعية. رحلات قصيرة تستغرق ساعات بسبب الحواجز، مستوطنون يعتدون بلا رادع، أوامر هدم معلقة فوق رؤوس العائلات، واقتحامات ليلية تخطف الآباء من بين أسرّتهم أمام أعين أبنائهم. بهذا الوصف القاسي، ترسم الأم الفلسطينية صورة للحياة تحت نظام عنيف يدمّر الأسرة قبل أن يدمر الحجر.

ألم الأجيال الجديدة

وسط هذا الخراب، تكبر ابنتها سالي وهي تتساءل: لماذا تحتاج إلى تصريح كي تصلي في القدس خلال أسبوع الآلام؟ كيف يصبح الوصول إلى المدينة المقدسة امتيازًا ممنوحًا من ضابط احتلال؟ تقول شهندة: "هذا الأمر لا يعقل، يجعل حياتنا صعبة للغاية. أشعر بألم أبنائي وكل الشباب الذين يريدون فرصًا وحياة أفضل، لكنهم لا يجدون سوى الجدران والقيود."

الأم تدرك أن خيار الرحيل يفتح أبوابًا جديدة أمام أطفالها، لكنه في الوقت ذاته يعني خسارة إضافية للمسيحيين في بيت لحم. كل بيت يُباع يضيع معه جزء من الحضور المسيحي العريق في المدينة، لتتحول العقارات مع مرور الزمن إلى ملكيات غريبة عن أهلها الأصليين. وبين هذا الواجب الثقيل ورغبة الأبناء في حياة أكثر كرامة، تبقى العائلة أسيرة معضلة وجودية: البقاء صمودًا أم الرحيل نجاة.

سياسة خنق متعمد

إحصاءات الأمم المتحدة تشير إلى ما تسميه "استراتيجية التهجير" في الضفة الغربية، وهي مزيج من القوة العسكرية والخنق الاقتصادي. هذه السياسة لا تترك للناس خيارًا سوى العيش في جحيم يومي أو المغادرة. إنها ليست مجرد صدف أو تضييقات عابرة، بل مخطط يهدف إلى اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، بما في ذلك المسيحيون الذين يحملون إرثًا تاريخيًا في بيت لحم والقدس.

يوميات قاسية بلا أفق

تصف شهندة حياتها بكلمات بسيطة لكنها صادمة: "لا نعرف ماذا نفعل سوى أن نعيش يومًا بيوم، نتحمل هذا اللااستقرار وهذه الفوضى في أرض يُفترض أن تكون مقدسة." كلماتها تختصر مأساة الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال، حيث يتحول الروتين اليومي إلى معركة بقاء، وحيث الأم تُسحق بين واجبها كحامية لأسرتها وبين إدراكها أنها عاجزة أمام منظومة قمعية لا ترحم.

هذه الشهادة ليست مجرد حكاية عائلية، بل مرآة لمعاناة شعب كامل، حيث يتحول البيت إلى قفص، والأم إلى شاهدة على جريمة تُرتكب كل يوم بحق الأطفال والعائلات، فيما يواصل العالم تجاهل أن "الأرض المقدسة" باتت ساحة ألم لا تنتهي.

التعليقات (0)