-
℃ 11 تركيا
-
3 أغسطس 2025
اسماعيل جمعه الريماوي يكتب:هدن زائفة على مسرح الدم: إسرائيل تخدع العالم لتجميل قبحها
اسماعيل جمعه الريماوي يكتب:هدن زائفة على مسرح الدم: إسرائيل تخدع العالم لتجميل قبحها
-
28 يوليو 2025, 11:55:33 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
بعد أن شاهد العالم أجمع صور الأطفال النحيلة كشكل الهياكل العظمية وهم يموتون جوعًا تحت حصار خانق في قطاع غزة، بعد أن سمع أنين الأمهات والثكالى، وعاين ركام الخيام وصدأ الملاعق في الأواني الفارغة، هذه المشاهد الصعبة التي حركت كل الضمائر الحرة حول العالم الا الضمير العربي، وحده العظم الفلسطيني كان يقرع جدران الصمت، ووحده الجوع كان أبلغ من بيانات الشجب والإدانة. أمام هذا المشهد الإنساني الصادم، لم تجد إسرائيل حرجًا في تسويق ما أسمته "هدنًا إنسانية" في بعض المناطق، وكأنها تمنح الحياة لمن قررت سلفًا سلبها.
هذه الهدن، التي تبثها كخبر عاجل وكأنها بادرة رحمة زائفة ، ليست سوى محاولة لتجميل الوجه الدموي القبيح للاحتلال، والتخفيف من الضغط الدولي المتصاعد، لكنها في حقيقتها، مجرد مناورة تكتيكية تهدف إلى إعادة تنظيم القصف، وتدوير آلة الحصار، ومنح الوقت لمزيد من خطط التهجير والتجويع، لا لإدخال المساعدات ولا لإنقاذ الأطفال، فكيف يُعقل أن تعلن هدنة إنسانية من يمنع دخول حليب الأطفال ويقصف مراكز توزيع الطعام؟ كيف يمكن لأداة القتل أن تصبح فجأة راعية للرحمة؟
إن ما تقوم به إسرائيل في غزة ليس فقط إبادة جسدية، بل إبادة معنوية وأخلاقية، تزرع الجوع وتروّج صورة الكذب ، تخنق الماء ثم تتحدث عن شرايين الحياة، تمنع الوقود ثم تدّعي أنها تتيح الوقت لتشغيل المستشفيات، حتى اللحظات التي يُسمح فيها بمرور المساعدات، تكون انتقائية ومحدودة، وكأنها تُسقِط كِسَر الخبز في حفرة وتنتظر أن يتقاتل عليها الجوعى.
أما النظام العربي، فهو في أفضل أحوال غائب، وفي أسوأها شريك، حيث تغلق المعابر باسم السيادة، وتمنع قوافل الإنقاذ باسم التنسيق، ويمنع التظاهر نصرة لغزة باسم الأمن العام. أصبح الموت مشهدًا اعتياديًا في نشرات الأخبار، وأصبحت المجاعة عنوانًا باهتًا في نشرات الحكومات، فيما تقام الحفلات وتُوقّع الاتفاقيات ويُعاد تأهيل الاحتلال في قصور التطبيع.
هذه الهدن الزائفة التي تعلنها إسرائيل ليست إنسانية في سياقها، بل إعلامية، لا تسعى لإنقاذ الأرواح، بل لحماية صورتها من التآكل أمام الرأي العام الذي كشف عنها قناع الضحية الزائف التي كانت تظهره للعالم عنها عشرات السننين، إنها رشوة سياسية للمجتمع الدولي، وغطاء لجرائم مستمرة، ووسيلة لتضليل العدسات عن حقيقة ما يجري، وما يجري ببساطة: إبادة ممنهجة، بمزيج من النار والجوع.
في غزة، لا تُقرع أجراس الهدنة، بل أجراس المجاعة، لا تصل قوافل الإغاثة، بل تصل قوافل الموت و الدمار، حيث يموت الأطفال بصمت، وتذوب أجسادهم قبل أن تنضج، بينما تتراشق الأنظمة العربية بياناتها الباردة وتغسل أيديها من دم الجوع ببلاغات الدبلوماسية العقيمة، تُعلن إسرائيل هدنة، لكن في الميدان لا يتوقف القصف، ولا يغيب القنص، ولا تتوقف آلة الحصار عن طحن الحياة.
في زمن انكشفت فيه كل الأقنعة، لم تعد هناك حاجة للصراخ، لأن الجثث باتت تتكلم، ولم يعد للإنسانية معنى، إن كان تعريفها يبدأ من تل أبيب ولا تمر بغزة، في زمن تُقاس فيه قيمة الإنسان بجواز سفره و لونه و عرقه و دينه وموقفه السياسي، حيث تصبح المجاعة في غزة تفصيلًا في نشرات الطقس، وتصبح "الهدن الإنسانية" غلافًا أنيقًا لوثيقة إبادة.
لم تكتفِ إسرائيل بخداع العالم عبر "هدن إنسانية" مزيفة، بل مضت خطوة أبعد في مسرحية التضليل، حين سمحت بعمليات إنزال جوي للمساعدات فوق قطاع غزة، وهي مشاهد قد تبدو إنسانية في ظاهرها، لكنها في جوهرها تمثل امتهانًا صريحًا لكرامة الإنسان الفلسطيني، إن قذف المساعدات من السماء وكأن الغزيين ينتظرون فتات الطعام، لا يرقى لأن يكون حلاً ولا حتى بادرة تضامن حقيقية، بل هو استعراض مسموم لا يملأ شاحنتين، ولا يوقف نزيف الجوع، بل يُستخدم لتجميل وجه الاحتلال القبيح وتخفيف الضغط العالمي عنه، فبينما تنفذ طائرات الاحتلال المجازر، تسقط الطائرات الأخرى بضع طرود من الطعام لتقول للعالم: ها نحن نساعد، إنها خدعة مزدوجة، تسلب الناس حياتهم وكرامتهم في آن، وتغطي على الجريمة بكيس دقيق وصورة إعلامية.
غزة لا تحتاج إلى هدن، بل إلى كسر الحصار. لا تطلب وقفًا مؤقتًا للقصف، بل وقفًا دائمًا للخذلان، فالموت في غزة لا يأتي بالصواريخ فقط، بل يأتي بصمت العالم، وبخيانة الأشقاء، وبالأيادي التي تغلق المعابر باسم السيادة، وتفتح خزائنها لتطبيع مع القاتل.
وفي النهاية، يبقى السؤال: كم طفلًا يجب أن يموت حتى يُصحو الضمير؟ وكم عظمةً بارزة في جسد جائع نحتاج لنفهم أن "الهدن الزائفة" التي تعلنها إسرائيل، ليست سوى استراحة كاذبة في مسيرة موت معلن؟








