أمجد إسماعيل الآغا يكتب: "الهوية الوطنية".. تفكيك وهم الوحدة وإلزامية الاعتراف بالتنوع

profile
  • clock 27 سبتمبر 2025, 2:19:22 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

تشكّل الهوية الوطنية في ظل الاستقطاب السياسي والاجتماعي اختبارًا حادًا لا يقتصر على مجرد تعريف نظري أو شعارات شكلية، بل هو فعل مستمر من الاعتراف المتبادل والتعامل مع الواقع المركب والمعقد للحدث السوري، حيث تتعدد الأجزاء وتتداخل المصالح وتتأرجح بين التماسك والتفتت، فالإشكالية الأساسية التي يفرضها السياق السوري تتمحور حول كيفية الانتقال من الهوية الوطنية كحالة سلب وصراعات على مركزية الانتماء إلى هوية قابلة للمعايشة والحياة المشتركة، بمعنى أن الهوية الوطنية يجب أن تتحول إلى مشروع إنساني عميق يشمل الجميع، ولا يؤسس على قاعدة استثنائية أو يفرض نفوذ مكون على مكون آخر.

في قلب هذا المشهد وتعقيداته يكمن تحدي جوهري هو مواجهة أوهام "الوحدة الزائفة والصفاء الوطني الكامل" الذي يتجاهل أو لا يقرّ بالتعقيد الاجتماعي والتنوع الداخلي، فالوطن الذي يُرحب بفكرة العيش المشترك هو فضاء حي وديناميكي يتسم بالسعة والتنوع، حيث تسمح التعددية الثقافية والاجتماعية بحرية التعبير والاختلاف ضمن أطر متينة من العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والكرامة الإنسانية. في هذا السياق، لا تقتصر الوطنية على الشعارات البراقة أو الطقوس الشكلية مثل حفلات الولاء التي قد تكون فارغة من المعنى، بل هي قيمة وممارسة عميقة تتطلب بالدرجة الأولى الجرأة والشجاعة في مواجهة الذات الوطنية بكل أبعادها.

الطريق إلى وطن متماسك يتطلب النظر بصدق وواقعية في "مرآة الواقع السوري"، تلك المرآة التي تعكس بوضوح الاختلافات الثقافية والاجتماعية والهويات الجزئية التي تتعايش أو تتصارع داخل المجتمع الواحد، وبالتعامل مع هذه الحقيقة بشجاعة ووعي، يمكن بناء وطن متين يستند إلى قبول التنوع والتعاطف، حيث تصبح الوطنية دعوة للانفتاح على الآخر، وليس حصرًا في حالة من التجانس القسري أو إنكار الهوية، بذلك، تتحول الوطنية إلى مشروع متجدد ينبع من الاعتراف بالاختلافات واحترامها، ويعمل على توحيد المجتمع في إطار احترام العدالة والمساواة، حتى لا يصبح الوطن مجرد مساحة جغرافية أو رمزًا شعاريًا، بل كيانًا حقيقيًا ينبض بحياة كل أفراده بكل هوياتهم وتطلعاتهم.

بهذا المعنى فإن ما يجعل الهوية الوطنية تؤسس لتماسك حقيقي ليس تجاوز التناقضات أو محو الفوارق، لأن ذلك في الواقع ضرب من المستحيل، بل إدارة هذه الفوارق بما يحفظ كرامة الأفراد وحقهم في الاختلاف، دون أن تتحول الاختلافات إلى أسلحة للإقصاء أو أدوات تمييز، كما إن القدرة على احتواء التنوع وعدم تحويله إلى تهديد، واستثماره كفرصة للنمو والتطور السياسي والاجتماعي، هي ما يصنع الهوية الوطنية الحقيقية، وهذا التحول لا يتحقق بالتنظير فقط، بل بوعي يومي يرفض التفاضل الطبقي الخفي الذي يكرّس الإنقسامات بين أبناء الوطن الواحد، ويهدم الحواجز التي تبنيها تجارة النفوذ والامتيازات على حساب الآخرين.

القول بأن الوطنية تصبح "رتبة معنوية" تمنح فقط لمن يُصنفون على أنهم "موالون للسلطة" يفضح خطورة عملية أخلاقية واجتماعية تقود إلى تدمير الرابط الوطني وتجعل منه سلطة تمييزية، بدل أن يكون مشروعًا جامعًا. لا يمكن للدولة أو السلطة أن تعيد تأهيل الهوية الوطنية دون خلق "عقد اجتماعي" جديد يرتكز على فهم المواطنة الحقيقية التي ترسخ المشاركة العادلة والاحترام المتبادل، وتعطي لكل فرد شعوراً بأنه جزء مرئي ومسؤول عن مصيره الوطني، لا مجرد هامش يتلقى قرارات من نخبة حاكمة أو زمرة مهيمنة.

في الجوهر، الهوية الوطنية ليست إرثًا جامدًا أو تراثًا موحدًا مقدسًا، بل هي بناء اجتماعي وسياسي يتطلب تفاعلاً وحيادًا وانفتاحًا، وهذا البناء لا يتحقق باستحضار صور الوحدة القديمة، بل بإعادة إنتاج معنى الوطن كبيئة سياسية وأخلاقية وأرض للحوار والتعايش. وبذلك يصبح الوطن قابلًا للعيش المشترك عبر تقبل الاختلاف كجزء لا يتجزأ من الوجود الوطني، واحترام التنوع دون أن يتحول إلى سلاح للتفرقة والاقتتال.

منطقياً، إذا لم تتحقق هذه العدالة في الاعتراف والتمثيل، وإذا بقيت الوطنية حكراً على فئات معينة وفق مقاييس السلطة، فإن الهوية الوطنية ستبقى على الدوام مهددة بالانقسام والاحتراب الذاتي. لذلك، الحديث عن الوطن اليوم هو بالضرورة دعوة إلى السياسة الأخلاقية التي تقود إلى شجاعة الاعتراف بالتعدد داخل الوطن، وإلى بناء وطن تتاح فيه الفرصة لكل فرد ليكون مشاركاً وحاملاً للهوية، لا مجرد تابع أو مستبعد. بهذا، تتحول الوطنية من عنوان ثقيل إلى مشروع حياة ينبض بالتكامل والعدالة الاجتماعية والسياسية.

ختاماً، إن السرد السياسي للهوية الوطنية في زمن الاستقطاب يضعنا أمام إلحاح أخلاقي وفكري يدعو إلى تجاوز الخطابات التقليدية والبنى الإقصائية، ليتم بناء وطن لا يحتكر تعريفه أو هويته طرف أو مجموعة، بل يحتضن الجميع كركائز أساسية للتماسك الوطني المستدام، وهو ما يُبرز بوضوح أن الهوية الوطنية في سوريا تحتاج إلى إعادة بناء جذري يؤسس على الاعتراف الحقيقي بالتنوع وحق الاختلاف، بعيدًا عن الانغلاق في صور الوحدة الزائفة أو التجانس القسري، فالوطنية الحقيقية هي التي تتيح مكانًا لجميع المكونات لتشارك بإنصاف في صياغة مصير الوطن، مع احترام حقوق المواطنة والكرامة الإنسانية للجميع، وفي المقابل فإن غياب هذا الإدراك يعرض الهوية الوطنية لهشاشة الانقسامات والصراعات المستمرة. لذلك، يتوجب بناء عقد اجتماعي جديد يقوم على المشاركة والمساواة والاحترام المتبادل، بحيث تصبح الوطنية مشروع حياة مشترك ينبض بالتكامل والعدالة، ويحول سوريا إلى فضاء يرحب بالتعدد والاختلاف كشرط أساسي للاستقرار والازدهار الوطني.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)