أمجد إسماعيل الآغا يكتب: "سيادة تحت الحصار".. الحُكام الجُدد والشرعية الوطنية المفقودة

profile
أمجد إسماعيل الأغا كاتب وباحث سوري
  • clock 20 سبتمبر 2025, 12:35:05 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

تتصاعد في السياق السوري اليوم تساؤلات جوهرية حول معنى السيادة الوطنية ومضمونها الحقيقي في ظل تحولات محلية وإقليمية ودولية متسارعة، فالسيادة التي كانت تمثل دائماً الإطار الأسمى للدولة، لم تعد مفهوماً ثابتاً أو مقدساً في الحالة السورية، لكنها باتت رهينة انقسامات وصراعات داخلية وتدخلات خارجية تُشكك في هيمنة الدولة على كامل أراضيها ومصيرها، لا سيما أن حالة التمزق الجغرافي والسياسي الذي تشهده سوريا

يظهر الحديث عن السيادة الوطنية بوصفه مفتاحاً أساسياً لفهم هشاشة الدولة السورية، وأدوار الحُكام الجُدد الذين يعيدون إنتاج هذا المفهوم بصيغ مشوهة تخدم أجندات ضيقة، ولا تعبّر عن وحدة وطنية جامعة، كما يتصاعد قلق عميق إزاء الاتفاقات الأمنية والسياسية التي تُفرض من خارج السياق الوطني، وأبرزها الاتفاق الأمني مع إسرائيل، الذي يهدد هذه السيادة ويضعها تحت ضغط نفوذ إقليمي خطير، مع ما يترتب على ذلك من انزياح فعلي عن المعايير التقليدية للسيادة وسيطرة الدولة على جغرافيتها، مما يكشف جلياً التعقيدات والمخاطر التي تعصف بالسيادة الوطنية في سوريا.

مفهوم السيادة الوطنية يُشكل الركيزة الأساسية التي ترتكز عليها الدول في بنائها السياسي والقانوني، إذ تمثل السيادة السلطة العليا والمطلقة للدولة على أرضها وشعبها، وهي الحاجز الفاصل الذي يمنح الدولة وحدة وسيطرة داخلية وخارجية، إلا أن تجليات هذا المفهوم لم تعد ثابتة أو جامدة في السياقات التي تشهدها سورية اليوم، بل تتعرض لتأويلات وتحولات تختلف وفقاً للتحولات السياسية والاجتماعية التي يمر بها المشهد السوري؛ في هذا المشهد تكاد ملامح “السيادة الوطنية” تتعرض لتشويهات متكررة بسبب غياب معالم الدولة الوطنية الفاعلة، وصعود “الحكام الجدد” الذين غالباً ما يتسمون بالتمثيل الجزئي أو المفروض من قوى خارجية أو محلية ذات أجندات مختلفة. هذا الواقع يحتم علينا مراجعة عميقة لمفاهيم السيادة الوطنية من منظور نقدي، يتجاوز البُعد النظري ويغوص في تجلياتها العملية ضمن واقع هش ومفروض.

السيادة الوطنية بالمفهوم التقليدي تفترض وجود “دولة قوية” تسيطر على كافة أراضيها وشعبها، وتفرض نظام حكم يمثل الإرادة الجامعة للمواطنين. لكن في سوريا، لم تعد هذه الصورة ممكنة كواقع ملموس، إذ نجد انقساماً واضحاً بين مناطق متعددة السلطة ووجود كيانات متوازية وضعف في التمثيل السياسي الواحد. هنا تظهر الأزمة الكبرى في مفهوم السيادة كسلطة جامعة، لتتحول بصورة جزئية إلى مفهوم سيادة على الورق فقط، أو إلى أداة تستخدمها فئات وسلطات متنافسة لتبرير وجودها أو رفض الآخر.

أما بالنسبة لـ “الحكام الجدد”، فإنهم غالباً ما يُشكّلون تجسيداً لانتهاك أو إنتاج بأشكال جديدة لمفهوم السيادة، فهم لا يبنون سلطتهم على قاعدة وطنية جامعة، بل على تحالفات سياسية ضيقة أو دعم من قوى خارجية أو ميليشيات محلية تفتقد إلى الشرعية الشعبية أو الوطنية الحقيقية. في هذا الصدد فإن توظيف السيادة الوطنية يصبح رافعة للتبرير السلبي، حيث تُستخدم شعاراتها لتغطية انقسامات حادة وصراعات نفوذ بدلاً من تعزيز الوحدة الوطنية أو السيادة. هذا التوظيف المزدوج والسيء للمفهوم يفضي إلى حالة من التشظي السيادي، حيث تتحلل الدولة تدريجياً من معانيها الجوهرية، وتتحول إلى مجموعة من المجالات المتعددة النفوذ التي تخضع لسلطات مغايرة في كل منطقة، إذ يكشف هذا الواقع هشاشة مفاهيم السيادة الوطنية عندما تُقاس فقط من منظور الكينونة الشكلية للدولة، دون اعتبار للعناصر الجوهرية مثل شرعية الحكم والمواءمة الوطنية، والعلاقة الحقيقية بين السلطة والمجتمع.

التشظي السيادي يتجلى بوضوح عند الحديث عن الاتفاق الأمني مع إسرائيل وما سيتبعه لاحقاً من اتفاقيات يهدد السيادة الوطنية خاصة في ظل توغل إسرائيلي في الجغرافيا السورية، وهذه الاتفاقية بهذا الإطار ستكون مفروضة، وهو تطور بالغ الحساسية يعكس أبعاداً جديدة من الانتهاك على الأرض السورية، فالتوغل الإسرائيلي المتواصل في الجغرافيا السورية، سواء من خلال عمليات عسكرية أو احتلال أجزاء محددة، يُمثل تحدياً واضحاً لمفهوم السيادة الذي يقوم على السيطرة الكاملة للدولة على أراضيها؛ هذه الاتفاقية الأمنية المرتقبة في سياق الواقع السوري الراهن، لن تكون اختياراً سيادياً حراً، بل مفروضة بفعل الأوضاع الإقليمية والدولية التي تعيشها سوريا، كما أن فرض مثل هذه الاتفاقيات يعكس انتقال مفهوم السيادة الوطنية من حق سيادي للدولة إلى أداة تُستخدم لتكريس نفوذ خارجي على حساب الوحدة والتراب الوطني، وهذا يعني أن السيادة تتحول هنا إلى حالة شكلية خالية من مضمونها الحقيقي، بحيث تُفرض شروط خارجية على السيادة السورية، وتصبح مرهونة بسياسات وحسابات إقليمية لا تخدم المصلحة الوطنية أو الاستقلال الحقيقي.

بهذا المعنى فإن الاتفاق الأمني مع إسرائيل لا يقتصر على كونه مجرد ملف أمني عابر، بل هو مؤشر خطير على فقدان الدولة سيطرتها على مفاصلها الجغرافية والسياسية، ويشكل انعكاساً عملياً لما يمكن تسميته بـ"التشظي السيادي"، حيث تُفقد الدولة سلطة الحسم في معالم سيادتها الجغرافية وتحكمها بالقرارات المصيرية، مما يقود بالضرورة إلى إضعاف الدولة الوطنية وشرعنة التبعية الخارجية.

هذه الحقيقة تعيد إلى الواجهة أهمية مراجعة شاملة لمفهوم السيادة الوطنية، ليس من المنظور النظري فحسب، بل من خلال إعادة بناء مشروع وطني حقيقي مبني على إنهاء كل أشكال الاحتلال والتدخل الخارجي، فكل اتفاقية تُوقع أو تُفرض من خارج إرادة وطنية حقيقية تعني بالضرورة تراجعاً في معنى السيادة وتهديداً لمستقبل الدولة الوطنية السورية، ومن ثمّ، يصبح من الضروري في مراجعة مفهوم السيادة الوطنية في سوريا تجاوز الحكاية الرسمية والنصوص الدستورية، والتركيز على أن السيادة الحقيقية لا تتحقق إلا عندما تنعكس على الأرض وحدةً وطنية تضامنية تحترم التنوع الديموغرافي، وتُرضي أطراف الصراع المتعددة ضمن إطار سياسي شامل. بمعنى آخر، فإن السيادة الوطنية يجب أن تتحول من مفهوم سلطة عليا إلى مشروع توافقي يقوم على توافقات وطنية وحوارات صادقة بين كل الفرقاء، وألا تصبح محتجَزَة أو شعاراً يستخدم لتمرير أجندات أحادية.

أخيراً، إن إعادة تعريف السيادة الوطنية في سياق سوريا يتطلب قطيعة مع فكرة الدولة السلطوية الأحادية، وتبني نموذج دولة مدنية ديمقراطية تستند إلى الحقوق والواجبات وتوازن القوى، حيث لا تُفرض سيادة مركزية ولا تُخضع البلاد لتقسيمات جهوية أو طائفية، بل تكون السيادة حقيقية كسلطة تحمي الحقوق وتحفز المشاركة الجماعية لبناء مستقبل مستدام تماماً بمعنى السيادة الحقة.

صفوة ما سبق. مفهوم السيادة الوطنية في سوريا لم يعد مجرد إطار قانوني أو سياسي جامد، بل أصبح مرآة تعكس حالة التشظي العميق التي تعاني منها الدولة السورية، فالسيادة الوطنية التي من المفترض أن تجسد الوحدة الوطنية والتشاركية والحوار، تتحول اليوم في السياق السوري إلى فكرة محاصرة بين انقسامات سلطوية محلية وتدخلات خارجية متزايدة، والحكام الجدد لم يثبتوا شرعيتهم الوطنية، بل وظفوا شعارات السيادة لتبرير سلطات جزئية مقسمة تتعارض مع الفكرة الجوهرية للدولة الموحدة. وفي هذا الإطار، يأتي الاتفاق الأمني مع إسرائيل باعتباره تهديداً صريحاً للسيادة، إذ يُفرض على الدولة السورية في ظل تدهور قدراتها وامتدادات السيطرة، مما يجعل السيادة حبيسة شروط إقليمية تجعلها سطحية ومجردة من مضمونها الحقيقي. 

بالتالي، لا يمكن الحديث عن سيادة وطنية حقيقية إلا من خلال بناء مشروع سياسي متجدد يعترف بالتنوع ويضم كل الأطراف ضمن حوار وطني جامع، ويهدف إلى استعادة السيادة كحق مادي وفعلي، وليس كشعار أو مبرر، مستنداً إلى دولة مدنية ديمقراطية قادرة على وضع حد للتدخلات الخارجية وتوحيد الأرض والشعب في كيان سيادي حقيقي ومستدام.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)