"مركبات جدعون" تتعثر في بيت حانون.. ملحمة استنزاف لا تهدأ

profile
  • clock 6 مايو 2025, 10:55:58 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

بينما تُراكم حكومة الاحتلال الإسرائيلي الخطط العسكرية تحت مسمى "مركبات جدعون" بغرض القضاء على المقاومة في قطاع غزة، تظهر بلدة صغيرة في أقصى الشمال الشرقي للقطاع، ككابوس متجدد يفشل الجيش في احتوائه أو تجاوزه. بيت حانون، التي لم يتبق من عمرانها سوى أطلال، تحولت إلى مختبر حي لتجريب إرادة المقاومة وقدرتها على التكيف، وعلى تحويل ميدان محاصر إلى مصيدة للعدو.

"جدعون": خطة شاملة تقابلها مقاومة مرنة

العملية التي أقرها المجلس الوزاري الإسرائيلي، تقوم على تصعيد القصف البري والجوي، وتحويل شمال غزة إلى منطقة فارغة من سكانها عبر التهجير القسري، مع إبقاء الاحتلال في المناطق التي يسيطر عليها، وتطبيق "نموذج رفح" عليها، أي تحويلها إلى منطقة أمنية معزولة. لكن المخطط، الذي يُفترض أن يُحكم السيطرة على قطاع غزة عسكريًا، يواجه اختبارًا قاسيًا في بيت حانون، حيث فشل الاحتلال -رغم التدمير شبه الكامل للبلدة- في منع عودة المقاتلين إلى شوارعها المحفورة تحت الأرض والمبثوثة بالكمائن المحكمة.

بيت حانون: رقعة صغيرة.. لكن مُربِكة

تمتد بيت حانون على مساحة لا تتجاوز 12.5 كيلومتر مربع، لكنها تتصل جغرافيًا بشكل مباشر مع السياج الحدودي شمالًا وشرقًا، مما يمنحها أهمية تكتيكية بالغة. وكانت أولى المناطق التي اجتاحها الاحتلال مع بداية الحرب، ظنًا أن تدميرها الشامل كفيل بإخماد ما تبقى فيها من مقاومة. لكن المقاومة أعادت تنظيم صفوفها، واستثمرت شبكات الأنفاق ومواقع الرصد لتتحول البلدة إلى فخ متحرك ينهك وحدات الاحتلال المتوغلة.

التكتيك: النفس الطويل.. والكمائن الذكية

تتميز المقاومة في بيت حانون بتكتيك "النفس الطويل"، حيث لا تُستنزف في مواجهات عبثية، بل تترقب، ترصد، وتختار اللحظة المناسبة للضرب. عمليات مثل "كسر السيف" و"كمائن الموت"، استهدفت ألوية إسرائيلية نوعية مثل "كفير" و"ناحال" والفرقة 162، ما أدى إلى خسائر فادحة في الأرواح والمعدات. وأظهرت فيديوهات نُشرت مؤخراً كيف تم قنص جنود الاحتلال في وضح النهار، وفي مناطق كان يُفترض أنها "مطهّرة".

ما يعزز فعالية هذه الكمائن هو تكيّف المقاومة مع الخرائط المتغيرة للعدوان، وقدرتها على التخفي والمباغتة، بما في ذلك الخروج من "خلف الخطوط"، وهو ما أربك حسابات الجيش الذي ظن أن فرضه منطقة عازلة كفيل بتأمين قواته.

الجيش في أزمة: تآكل المعنويات وتراجع المبادرة

اللافت أن جيش الاحتلال، رغم اعتماده على كثافة النيران وتفوقه الجوي، يحجم عن التوغل المباشر في بيت حانون مجددًا. فالهجمات المتكررة التي تنفذها المقاومة أربكت الجنود، وأثرت على معنوياتهم، في ظل شعور متزايد داخل صفوفهم بعدم جدوى هذه الحرب الطويلة والمكلفة. تشير تقارير عبرية إلى أن مقاتلي المقاومة يعرفون نقاط الضعف في تشكيلات الجيش قبل مهاجمتها، ويستخدمون ذلك لتوجيه ضربات دقيقة ومؤلمة.

هذا التراجع الميداني انعكس على المستوى السياسي والعسكري داخل الكيان، حيث تعلو الأصوات المنادية بضرورة مراجعة الخيارات، وتطرح تساؤلات عن قدرة "جدعون" على تحقيق أهدافها، لا سيما مع اتضاح حدود القوة في مواجهة عدو مرن وخبير.

حرب الوعي والسيطرة على السردية

تسعى المقاومة إلى فرض سرديتها عبر توثيق كل ضربة توجهها للاحتلال. مقاطع الفيديو التي تبثها كتائب القسام لا تؤدي فقط وظيفة إعلامية، بل تزعزع الثقة داخل الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وتؤكد أن الكيان لا يملك اليد العليا ميدانيًا، على عكس ما يروّج. في المقابل، يفقد الاحتلال روايته شيئا فشيئا، في ظل الفجوة بين تصريحاته وبين الوقائع المصورة من قلب الميدان.

بيت حانون: ما بعد الجغرافيا

تحولت بيت حانون إلى ما هو أبعد من رقعة جغرافية، وأصبحت رمزًا لفشل الاحتلال في فرض معادلاته على الأرض. فعلى الرغم من كل ما جرى من تدمير وتطويق وتجويع، ما زالت هذه البلدة الصغيرة تتصدر المشهد كمركز فاعل للمقاومة، يُعيد تشكيل ميزان القوى بعمليات نوعية تُربك الاحتلال وتمنع تثبيت سيطرته.

إن ما يجري في بيت حانون ليس مجرد مواجهة عسكرية، بل ملحمة صبر وذكاء عسكري، تُعبّر عن توازن ردع جديد لا يُقاس بعدد الجنود أو حجم العتاد، بل بقدرة طرف محاصر على إعادة تعريف حدود المعركة. ومع كل كمينٍ يُنصب هناك، تتآكل "جدعون"، وتتراجع أوهام الحسم.

التعليقات (0)