مجاعة غزة: السلاح الإسرائيلي الصامت لتفكيك المجتمع الفلسطيني

profile
  • clock 24 يوليو 2025, 12:14:39 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

متابعة: عمر المصري

في تحقيق موسّع نشرته صحيفة "الجارديان"، كشفت الكاتبة إيما غراهام-هاريسون عن أن المجاعة التي تضرب قطاع غزة لا تُفضي فقط إلى موت الفلسطينيين فرادى، بل تُلحق ضررًا بنيويًا بالمجتمع بأسره، وتترك آثارًا دائمة في الأجساد والعقول — آثارًا ستمتد عبر الأجيال.

التحقيق أشار إلى أن المجاعة ليست مجرد نتيجة جانبية للحرب، بل أداة يُعاد توظيفها سياسيًا واستراتيجيًا من جانب الاحتلال الإسرائيلي، الذي استمر في استخدام سياسات "التحكم بالغذاء" حتى خلال فترات وقف إطلاق النار، كأداة للضغط والسيطرة على الفلسطينيين. وتُحذّر الصحيفة من أن ذلك قد يتكرر مجددًا حتى في حال الإعلان عن هدنة مرتقبة.

عندما يأكل الجسد نفسه… ويُنتزع معنى الحياة

الجوع الشديد يجبر الجسم البشري على التهام عضلاته وأعضائه طلبًا للطاقة، ما يؤدي إلى أضرار جسدية لا تُشفى. أما الأطفال، فيُعانون من تباطؤ في نمو أدمغتهم وأجسادهم، وأحيانًا تُورَّث تلك الأضرار إلى الجيل التالي.

لكن أخطر ما تصفه الكاتبة هو الجانب الاجتماعي: الجوع يُفكك العلاقات، يُزرع العداء بين الجيران، يدفع الأب إلى رفض توسّلات طفله الجائع، أو الأخت إلى بيع جسدها مقابل كيس طحين. حتى وإن بقي الجسم على قيد الحياة، فإن الروح تنكسر.

الخبير في شؤون المجاعات، أليكس دي وال، أوضح للجارديان أن المجاعة لا تُختبر فقط كظاهرة بيولوجية، بل كتجربة اجتماعية جامعة:

"العار، الصدمة، فقدان الكرامة، انهيار الروابط… تلك التجربة الاجتماعية هي ما يتذكره الناجون أكثر من الجوع نفسه."

وذكّر دي وال بأن الشعب الأيرلندي استغرق قرنًا ونصف بعد مجاعة الأربعينيات كي يجرؤ على تخليدها، مؤكدًا أن من يُمارس التجويع يدرك أنه بذلك لا يقتل فقط، بل يُفكك الأمة ذاتها.

مجاعة بتصميم هندسي

يركّز التحقيق على ما تسميه الصحفية "الهندسة الموجهة للمجاعة"، حيث يتم توزيع مراكز الغذاء التابعة لما يسمى "مؤسسة غزة الإنسانية" (GHF) في مناطق سبق للجيش الإسرائيلي أن أمر السكان بإخلائها. والمفارقة أن الوصول إلى هذه المراكز يتطلب المرور بمحاذاة مواقع عسكرية إسرائيلية، وهو ما يجعل المدنيين أهدافًا للقتل حتى في حال الهدنة.

تقول الباحثة نور أبو زيد من مؤسسة Forensic Architecture، إن هذا النظام يؤدي إلى تفكك الحكم وتحوله إلى سؤال واحد: من يستطيع إطعام الناس؟ وتتابع:

"إذا تمكنت من إطعامهم، يمكنك أن تحكمهم. لقد اختُزلت الحياة كلها في غزة إلى سؤال واحد: ماذا سنأكل اليوم؟".

وحذرت من أن أكثر من مئة شخص قُتلوا خلال الهدنة الماضية فقط لأنهم اقتربوا من مناطق "عازلة"، مؤكدة أن النموذج الحالي يعيد إنتاج المجزرة يوميًا تحت غطاء "الإغاثة".

تجويع بلا مفاجآت… ومجتمع تحت المجهر

يرى دي وال أن إسرائيل، بسيطرتها على المعابر البرية والبحرية، تعرف جيدًا عدد السعرات التي تدخل إلى غزة. وهذا ما يجعل التجويع عملًا ممنهجًا وليس خطأ عارضًا:

"يمكنك أن تطلق النار على أحد بالخطأ… لكن لا يمكنك أن تُجَوِّع أحدًا دون قصد. لديك بين 60 إلى 80 يومًا لإصلاح ذلك، إن كنت تريد."

ومن خلال بيانات الأمم المتحدة حول معدلات سوء التغذية، فإن القادة الإسرائيليين لا يمكنهم إنكار معرفتهم بما يحدث.

ويضيف البروفيسور إييال وايزمان، مدير مؤسسة Forensic Architecture، أن القيود الإسرائيلية المفروضة على دخول الغذاء إلى غزة تُعد فعلًا إباديًا مزدوجًا: فالتجويع ليس فقط وسيلة، بل غاية أيضًا:

"التجويع يُستخدم لتفكيك المجتمع. فإذا استمر هذا النموذج، حتى خلال وقف إطلاق النار، فإن الإبادة ستتواصل."

نموذج "الإنسانية الإباديّة"

يركّز المقال على مفهوم لافت: "الإنسانية الإباديّة" أو Genocidal Humanitarianism، وهو وصف يُطلقه دي وال على سياسة تقديم الحد الأدنى من الطعام لتفادي الموت الجماعي، ولكن مع الحفاظ على مستويات من الجوع تُحطم الروح والمجتمع.

في هذا النموذج، تُستخدم الإغاثة كسلاح: تقديم الغذاء فقط بما يكفي لإبقاء الضحية حيًا، مع تركه في قبضة الذل والعجز والتفكك المجتمعي.

ويختتم المقال بتحذير صادم:
إذا استمر النظام الحالي، حيث تتحكم إسرائيل في "كل سعر حراري" يدخل غزة، وتحدد من يستحق الحصول عليه، فإن تفكيك المجتمع الفلسطيني سيبقى مستمرًا حتى خلال فترات "الهدوء".

التجويع سياسة… وليست نتيجة

مقال "الجارديان" لا يكتفي برصد الأعراض، بل يكشف عن منظومة استراتيجية تُدار بوعي: التجويع كسلاح جماعي، لا يُستهدف به الجسد فقط، بل تُستباح فيه روح المجتمع، وذاكرته، وكرامته.

وإذا لم تتغير الشروط القائمة، فإن "وقف إطلاق النار" لن يعني أكثر من تحويل أدوات القتل… من الصواريخ إلى الجوع.

التعليقات (0)