عمر محمد العرب يكتب: غزّة بين فكيّ التجويع والموت.. الزاوية شاهدة على سقوط إنسانيّة العالم

profile
عمر العرب المحلل السياسي
  • clock 25 يوليو 2025, 1:34:45 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في الزاوية، حيث تتقاطع الأزقّة بين الركام، وتختلط رائحة التراب المحروق بأنين الأطفال، تكتب غزّة فصلها الأشدّ ظلمة، لا بالحبر، بل بالدمّ والصبر والجوع. لم تعُد المأساة محصورة في دويّ الانفجارات، بل باتت تُقاس بصرخة رضيع بلا حليب، أو بأمٍّ تسأل السماء بدلًا من الأرض عن رغيف خبزٍ مفقود.

الاحتلال الصهيوني لم يعُد يكتفي بالقنابل، بل وجد في التجويع سلاحًا أنجع، وفي خنق القطاع طريقةً أشدّ فتكًا من الاجتياح. ما يجري في الزاوية هو نموذج مصغّر عن خطّة إبادة جماعية بطيئة، تُنفَّذ تحت سمع وبصر العالم المتحضّر – ذاك الذي لا يتحرّك إلا إذا احترقت راحة يده، أمّا إن احترق قلب غزّة، فهو خبرٌ عابر في آخر النشرة.

خطة التجويع: عقيدة جديدة في الحرب القذرة

منذ أشهر، تتّبع القوات الصهيونية أسلوبًا ممنهجًا يقوم على تجفيف مقوّمات الحياة: منع الغذاء، تدمير المزارع، قصف الأفران، سدّ طرق الإغاثة، وقطع المياه. ليست أخطاءً عشوائية، بل خطوات محسوبة في إطار خطة "التركيع عبر الحصار". لم تعُد المعركة عسكرية تقليدية، بل معركة كسر الإرادة الإنسانية.

منطقة الزاوية اليوم تُحاصر كما لم تُحاصر من قبل. لا مساعدات تدخل، ولا خروج يُسمح، ولا استغاثة تُسمع. هي ساحة حرب بلا نار، حيث الجوع أبطأ من الرصاص، لكنه أشدّ قتلًا.

واشنطن: الشريك الصريح في خطة الإبادة

لا يُمكن لأيّ باحثٍ في المشهد أن يتغافل عن دور الولايات المتحدة. إدارة ترامب الثانية لم تكتفِ بمنح الاحتلال الصهيوني الضوء الأخضر، بل تُشارك في توجيه الضوء ذاته نحو أعين العالم ليُعميه عمّا يجري. في كلّ قرار، وكلّ صفقة سلاح، وكلّ بيان يُساوي بين القاتل والضحية، تظهر واشنطن كمهندسٍ خلف الستار لمسرحية الجوع هذه.

حتى المساعدات الإنسانية باتت رهينة التوقيع الأمريكي، تُمنع أو تُمرَّر حسب مزاج البيت الأبيض، وتُقاس وفق بوصلة المصالح الصهيونية، لا وفق أنين الضحايا.

أوروبا: القلق الناعم والتواطؤ الصامت

أمّا الاتحاد الأوروبي، فقد اختار أن يرتدي ثوب الحكيم المتردّد. فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا تعلن "قلقها العميق" كلّما ارتفعت حصيلة الشهداء، لكنها لا تنسى أن تجدّد عقود التسلّح مع تل أبيب. دبلوماسية الخداع بلغت ذروتها، والمنظومة الأخلاقية الأوروبية سقطت تحت أنقاض غزّة قبل أن يسقط أيّ بيت.

وما المنظّمات الدولية سوى مرايا لهذا الإفلاس الجماعي. فالبيانات تتكدّس، والإدانة تُطبَخ على نار خفيفة، فيما يموت الفلسطيني جوعًا كلّ يوم خمس مرّات: مرّةً من القصف، ومرّةً من الصمت، ومرّةً من الانتظار، ومرّةً من الكذب، ومرّةً من خيانة الأشقاء.

من يقتل غزّة حقًّا؟ خيانة القادة وصمت الشعوب

لكن الجريمة لا تكتمل إلا بوجهها العربي. فالسكين الصهيونية، وإن غرست في قلب الزاوية، فإنّ الأيدي التي رفعتها ليست أجنبية فقط، بل عربية أيضًا. أين العرب؟ أين قادتهم؟ أين جامعتهم المعلّقة منذ قرون في زمن المذلّة؟

القادة العرب اليوم، أكثرهم، شركاء في الدم، وإن تظاهروا بالبراءة. بعضهم وقّع صفقات التطبيع وباع القدس في العلن، وبعضهم غضّ الطرف وسكت عن المجازر، وبعضهم يضحك في المحافل بينما غزّة تبكي بلا سقف. لم يعُد الصمت حيادًا، بل خيانة موصوفة.

أمّا الشعوب، فحالها لا يقلّ مرارة. من يعيش في غفلة، أو يتذرّع بالجهل، أو يلوذ بالحياد الكاذب، يشارك في الجريمة بطريقة أو بأخرى. هناك من يدّعي نصرة غزّة في تغريدة، ثم يصفّق لزعيمٍ يُصافح القاتل. وهناك من تبلّدت مشاعره، فتحوّل قلبه إلى حجر، لا يهتزّ لصرخة، ولا يُسعف جائعًا، ولا يتحرّك حتى بدعاء.

غزّة اليوم مرآة كاشفة: من يُخادع نفسه بالصمت، سيسقط غدًا تحت السكين نفسها. فبعد غزّة، تُهدَّد بيروت، وبعدها دمشق، ثم الخليج، فالمغرب، فالمشرق. الوطن العربي كلّه ليس بمنأى، من شماله إلى جنوبه، ومن غربه إلى شرقه. النار تأكل أطراف الخريطة، ومن يظنّ نفسه آمنًا بعيدًا عنها، فهو في غفلة مهلكة.

الزاوية آخر الأسئلة قبل انهيار الضمير

غزّة لا تطلب المستحيل، بل تسأل:
أين أنتم؟
أين العالم؟
أين العرب؟
أين الإنسان؟

تسأل وتُقاوم، لا بالمدفع بل بالجوع. تُقاوم بالتمسّك بالحياة، برغيفٍ مقسوم على أربعة، وبصبرٍ تعجز عنه الجبال.

اليوم، تُكتب الزاوية بدمها في سجلّ التاريخ: ليست مجرّد حيّ، بل بوصلة الأخلاق. ومن لم يعرف وجهه في مرآتها، فقد هويّته.

وختامًا، نقول:
غزّة لا تموت، بل تكشف من مات فينا.
غزّة لا تُهزم، بل تُعرّي الهزيمة التي صارت فينا عادة.
وغزّة، مهما طال الليل، ستُشعل صباحًا يُحرق فيه كلّ خائن وصامت ومطبّع.

وإن ظنّ بعضهم اليوم أنّه بمنأى عمّا يجري في غزّة، فليعلم أنّ الدور آتٍ لا محالة.
اليوم غزّة، وغدًا كلّ من أعدّ نفسه في منأى، سيُدرك أنّ صمته لم يكن نجاة، بل بداية السقوط.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)