أمجد إسماعيل الآغا يكتب: "محورية الفراغ في سورية".. مفتاح بنيوي لفهم الانهيار السياسي ومسارات إعادة الشرعية

profile
أمجد إسماعيل الأغا كاتب وباحث سوري
  • clock 10 سبتمبر 2025, 1:26:02 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في قلب الأزمة السورية المعقدة تكمن حقيقة غائبة بشكل مؤلم تتمثل في "محورية الفراغ" الذي تتجاوز عناوينه العميقة مجرد غياب السلطة، لتُشكل في مضامينها جوهر التحدي والعقبة الأكبر أمام استقرار سورية. هذا الفراغ السياسي والأمني ليس فقط نتيجة لتفكك مؤسسات الدولة، بل هو البيئة الحاضنة لاستمرار العنف والنزاع، إذ أوجد أرضًا خصبة لتداخل الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين، وعرقل أي محاولة لتوحيد السلطة الوطنية وإعادة بناء الدولة، وبهذا فإن فهم هذا الفراغ المركب هو مفتاح قراءة الأزمة السورية بعمق، لا من باب التشخيص فحسب بل كخطوة أولى نحو رؤية استراتيجية جامعة لإخراج سوريا من دوامة العنف والفوضى بمستوياتها كافة.

مفهوم "محورية الفراغ" في الأزمة السورية يتجاوز كونه مجرد وصف شكلي لغياب السلطة أو مؤشرات سطحية لانعدام الحكم، ليصبح إطاراً تحليلياً ذا أبعاد مركبة يسلط الضوء على الظواهر المتشابكة التي تؤطر واقعاً سياسيًا وأمنيًا واجتماعيًا معقدًا ومتشابكًا، فعند التمعن في هذا المفهوم، ندرك أنه يعكس حالة فراغ مزدوج التفصيل حيث فراغ في الحضور الشرعي للسلطة الوطنية، وفراغ في الفاعل الذي يحكم آليات الدولة ومؤسساتها التنفيذية والسيادية. هذا الفراغ لا ينشأ في فراغ زماني محدود ولا في سياق عارض، بل هو حالة مدمجة ومنتجة ديناميكياً من تفكك بنى الدولة التي فقدت قدرتها على فرض سيطرتها، وانهيار منظومة القانون التي كانت الضامن لشرعية الحكم والنظام الاجتماعي، كما ينبع هذا الوضع من تداخل غير مسبوق بين العوامل الداخلية التي صنعت بيئة استقطابية وحالة شرخ مجتمعي، وبين التدخلات المتعددة المستويات والأشكال التي فرضها الفاعلون المحليون والإقليميون والدوليون، كل يسعى إلى تعزيز نفوذه وسط فراغ شرعي ملحوظ.

هذه العوامل أسست لـ حلقة مفرغة من انعدام الاستقرار والتوتر الدائم، حيث يؤدي غياب السلطة المهيمنة إلى تعميق الفراغ، وينقلب الفراغ بدوره إلى مولد للصراعات المسلحة وتعدد الولاءات التي تعزز بدورها أيضاً مزيدًا من التشظي والفوضى. من هنا، يشكل إدراك هذا الفراغ المركب فهمًا أكثر شمولية لا يكتفي بالتشخيص السطحي، بل يسمح برؤية استراتيجية تأسيسية تستعيد من خلالها سوريا وحدتها ومرجعيتها الشرعية عبر بناء سلطة وطنية متماسكة لا تكتفي بالهيمنة الأمنية، بل تجسد توافقاً سياسيًا شاملاً يعيد اللحُمة الوطنية، ويوفر الآليات الفاعلة لإعادة بناء مؤسسات الدولة ومؤسسات الحكم. وبهذا فإن ملء هذا الفراغ لا يمكن تجاوزه بسطحية الإجراءات أو عبر حلول ظرفية، بل هو استحقاق بنيوي يُعيد رسم خارطة السلطة والشرعية داخل المعادلة السورية، وهو الطريق الضروري لتحرير البلاد من دوامة العنف والفوضى المتجددة، وتأسيس السلام المستدام الذي يتطلع إليه كل السوريين بحق، كضرورة لبناء مستقبل ما بعد الأزمة يتسم بالاستقرار والتنمية والعدالة الاجتماعية.

أن فهم "محورية الفراغ" يُفضي إلى إدراك أن انعدام سلطة قوية وشرعية أصبح ليس مجرد حالة مؤقتة بل هو المهيمن على طبيعة الوضع السوري الراهن، وهو الفراغ الذي أصبح مساحة شاسعة يسمح بتوسع العنف وحضور الفصائل المسلحة ذات الولاءات المتعددة والقوى الخارجية التي تسعى لتحقيق مصالحها، ويحول دون إنتاج آليات فعالة للحوكمة أو استعادة النظام القانوني. هذا الفراغ السياسي لا يمكن اختزاله في غياب شخص أو جهة تتحكم بعناوين الحدث السوري، بل يجب النظر إليه كفراغ معقد ومتعدد الأبعاد يتمثل في غياب توافق سياسي يشمل فئات واسعة من السوريين وغياب قدرة الدولة على فرض سيطرتها على كامل الجغرافيا السورية أو تقديم ضمانات الأمن للمواطنين بل أكثر من ذلك هو غياب رؤية وطنية جامعة ومعترف بها داخلياً وخارجياً تتجاوز الصراعات والتنافسات على السلطة أو النفوذ.

في الحالة التقليدية قد يُفهم غياب السلطة على أنه نقص في القيادة أو استقطاب على مستوى النخب السياسية فقط، لكن "محورية الفراغ" تسلط الضوء على أن الفراغ السياسي السوري يشمل عدم وجود توافق سياسي شامل وواسع بين فئات المجتمع السوري المختلفة، مما يخلق فجوة في تمثيل المصالح المتنوعة وعدم القدرة على صياغة مشروع وطني جامع. هذا التشتت وعدم التوافق له ما يعادله في الصراع على الأرض، حيث غياب السيطرة الفعلية للدولة على كامل الجغرافيا السورية يتيح مساحات واسعة للفصائل المسلحة ذات الولاءات المتعددة، والتي تعكس بدورها استقطابات دولية وإقليمية. هذه القوى الخارجية، بدوافع مصالحها ومناطق نفوذها تستغل الفراغ لتوسيع نفوذها، مما يزيد من تعقيد المشهد ويحول دون تشكيل نظام حوكمة فعال يملك القدرة على إدارة الدولة واستعادة دورها كضامن للأمن والاستقرار.

الفراغ إذن ليس مجرد غياب قوة مركزية وحسب، بل هو تعبير عن انهيار لآليات السياسية الحقيقية التي تمنح السلطة القدرة على تنظيم المجتمع ووضع إطار قانوني للعدالة والأمن، وتقديم ضمانات للفئات المختلفة من السكان، هو أيضاً غياب لرؤية وطنية جامعة تتجاوز الحسابات الضيقة للصراعات على السلطة والنفوذ، وبذات التوقيت هي رؤية يجب أن تكون معترفاً بها داخلياً من كافة الفئات المجتمعية، وخارجياً من قبل القوى الدولية والإقليمية. هذه الرؤية يجب أن تقوم على أساس التوافق السياسي العميق والشامل حيث تتلاقى مصالح وتطلعات الفاعلين السوريين المختلفين في صيغة سياسية واحدة تستطيع استيعاب التنوع الداخلي وتجاوز الانقسامات الحادة التي تميز الواقع السوري.

تداعيات هذا الفراغ عميقة ومتجذرة فهي أدت إلى خلق حالة من تدهور متسارع في الأوضاع الأمنية والاجتماعية والاقتصادية وتفشي العنف المسلح وتوسع مناطق النفوذ المتعددة التي تحكمها قوى عسكرية وسياسية بديلة، إضافة إلى غياب سلطة قادرة على إدارة الأزمة وحماية الحقوق الأساسية للسوريين، وعليه فإن استمرارية الأزمة وتفاقمها إنما يعود أساساً إلى بقاء هذا الفراغ كبيراً ومتسعاً بحيث يسمح لجميع الجهات الفاعلة بأن تلعب أدواراً متنافرة تتعارض مع إمكانية تطبيق مدونة قواعد سياسية مشتركة أو الوصول إلى الحل السياسي المنشود، كما أن عدم وجود سلطة تحظى بإجماع السوريين وتكون جامعة لهم يقتل أي محاولة للإصلاح ويعمّق الانقسامات ويحيل المجتمع السوري إلى كتل متناثرة تعيش بلا قيادة معترف بها، ومع غياب أفق سياسي واضح لإعادة بناء مؤسسات الدولة تمر سوريا بحالة من الركود السياسي الذي ينعكس على ساحة الميدان وعلى العملية التفاوضية ذاتها مما يحول الأزمة إلى مأساة مستمرة بلا مخرج.

تكمن الحلول الفعلية في ملء هذا الفراغ من خلال سلطة وطنية متماسكة وشرعية تحظى بإجماع السوريين وتُؤسس على مؤسسات قوية تحمي الحقوق وتوفر الأمن والتنمية، وبدون إقامة هذه السلطة سيظل الفراغ السياسي والأمني مسرحًا للصراعات والتدخلات التي تُعيد إنتاج مأساة سوريا الدائمة. بهذا المعنى فإن"محورية الفراغ" هي أكثر من مفهوم تحليلي، بل هي دعوة ملحة لبناء المستقبل عبر الحوار والتوافق الوطني وإعادة صياغة الشرعية التي تستوعب التعددية الوطنية وتحمي الدولة من الانهيار، لتكون بداية السلام والتنمية المنشودة التي ينتظرها السوريون بكل أمل وألم.

على هذا الأساس، يشكل الفراغ السياسي الحالي وجوداً هيكلياً وليس استثنائياً وهو أساس الأزمة السورية المستعصية، إذ يفتقر المشهد السوري إلى القدرة على إنتاج مشروع سياسي يُنهي حالة التمزق والتفكك، ويعيد بناء المؤسسات التي توحد وتضمن استقرار الدولة. هذا الفراغ يعزز بدوره من فرص استمرار العنف المسلح ويضعف الحوكمة ويعطل المسارات الممكنة للحل السياسي الشامل والدائم، الأمر الذي يتطلب تجاوز هذا الفراغ السياسي لإعادة بناء الثقة بين الأطراف الفاعلة وخلق أطر تمثيل سياسية عابرة للصراعات التقليدية، وهي مهمة تتطلب وقتاً وعمقاً في التوافق السياسي، لكنها شرط لا غنى عنه لإنهاء محورية الفراغ وإعادة رسم ملامح الدولة السورية المستقبلية.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)