النضال الفلسطيني مشروع تحرر وطني متكامل

د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: اليوم التالي لغزة: الأولويات العشر

profile
د. محمد إبراهيم المدهون كاتب ووزير فلسطيني سابق
  • clock 9 يوليو 2025, 1:41:06 م
  • eye 436
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
تعبيرية

في خضم محرقة لم يشهد التاريخ المعاصر مثلها، وقفت غزة شامخة كأيقونة للتحدي والثبات، ومضت في معركتها بأجساد نحيلة، وعزائم فولاذية، ومقاومة كتبت بدمها فصولًا من المجد والبسالة. اليوم التالي لغزة، إذًا، ليس مشروعًا دوليًا، ولا صيغة تفرضها غرف التفاوض المعزولة، بل هو استحقاق فلسطيني بإمتياز، يُصاغ بوعي هذا الشعب، وببطولة مقاومته، وبإرادة وطنية لا تعرف الانكسار. فداوود هذه الأمة لم يهزم، بل صمد، وقاوم، وفرض معادلة جديدة، تستوجب إعادة بناء المشروع الوطني على أساس ما تحقق في الميدان.

في أعقاب محرقة غزة والطوفان الذي هزّ ضمير العالم، تبرز الحاجة الملحة إلى بلورة رؤية فلسطينية وطنية موحدة تُعيد الاعتبار للقضية، وتؤسس ليوم فلسطيني جديد، يُبنى على صمود غزة، ويقطع الطريق على مشاريع التصفية والتهجير والاستنساخ. فبعد إقرار الكنيست الصهيوني لقانون يرفض إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967، والاندفاع الهستيري نحو ضم الضفة الغربية، وغياب إرادة دولية حقيقية تفرض أي تسوية عادلة، تصبح المسؤولية الكبرى على عاتق الفلسطينيين أنفسهم.

إن اليوم التالي لا يمكن أن يُفرض تحت الاحتلال كما يريد نتنياهو، الذي يسعى لتسليم غزة إلى جهة عميلة ضمن رؤية استعمارية تهويدية، بل يجب أن ينبثق من الإرادة الوطنية الحرة. فرغم ضعف المعارضة الصهيونية، وتواطؤ بعض الأطراف الدولية والعربية، فإن مشروع الاحتلال يتهاوى أمام أسطورية صمود غزة، وتآكل بنية جيشه ومجتمعه، وتعمق أزماته الداخلية. وبقدر ما يحاول الاحتلال فرض واقع سياسي جديد، فإن النتيجة الحتمية ستكون فشل مشروعه وزوال نظامه الإحلالي.

إن اليوم التالي هو يوم فلسطين، وأيقونته غزة الصامدة، التي أثبتت أنها قادرة على إعادة صياغة المعادلة الفلسطينية. وما زالت الفرصة قائمة لبناء مشروع وطني جامع، يتجاوز الانقسام، ويعيد بناء المؤسسات على أسس تمثيلية ومهنية. وفيما يلي خارطة النقاط العشر التي تشكل معالم اليوم التالي:

1. ترميم البيت الفلسطيني وتوحيده:

إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني عبر توحيد العلاقة بين منظمة التحرير والسلطة، وإعادة هيكلة منظمة التحرير لتكون مظلة جامعة ببرنامج وطني، يقوم على القرار الوطني المستقل، بعيدًا عن العصبية الفصائلية والنزعة الفردية. كما ينبغي اعتماد استراتيجية وطنية ذات عمق عربي، تفضح الاحتلال وتواجهه قانونيًا وسياسيًا.

2. رعاية غزة واستعادة كرامتها:

إنفاذ عاجل لتشكيل لجنة الإسناد المجتمعي كمرحلة مؤقتة تشرف على توفير رعاية شاملة لغزة بعد ما تعرضت له من إبادة جماعية، تشمل إعادة الإعمار، علاج الجرحى، إنصاف العائلات المنكوبة، وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، بما يعزز مقومات الصمود والحياة الكريمة لجميع المواطنين.

3. إفشال مشروع ضم الضفة الغربية وإيقاف زحف الاستيطان:

يمثل مشروع الضم والاستيطان أكبر الأخطار على المشروع الوطني، ويجب مواجهته بتعزيز الصمود الشعبي، وتفعيل المقاومة بكل أشكالها، وتكثيف الجهود القانونية والدبلوماسية لفضح سياسات الاحتلال، واستنهاض جبهة وطنية موحدة في الضفة.

4. إسقاط مشاريع التهجير والتمديد لبلفور والنكبة:

التصدي لمشاريع التهجير القسري التي تتخفى وراء شعارات إنسانية، من خلال تشكيل حلف فلسطيني-عربي-إسلامي دولي يعيد الاعتبار للحق الفلسطيني، ويفضح أدوات التطبيع، وينتج خطابًا إعلاميًا جديدًا يفضح المشروع الصهيوني وامتداداته.

5. إفشال حكومة الاحتلال الفاشية:

فشل نتنياهو هو نتيجة حتمية لسقوط مشروعه القائم على التهجير والتطهير العرقي، ويجب استثمار ذلك في فضح الحكومة اليمينية، ومواجهة أي مشاريع إقليمية بديلة تُفرض على الفلسطينيين، خاصة مشروع "التطبيع والسلام الاقتصادي".

6. القدس والأقصى: الأولوية الوطنية والدينية:

تُمنح القدس مكانة مركزية في العمل  الدولي والعربي والفلسطيني، سياسيًا وإعلاميًا وميدانيًا، والعمل على إفشال مخططات التهويد، وإبقاء القدس في قلب المعركة، باعتبارها عاصمة فلسطين الأبدية، وقبلة الصراع مع الاحتلال.

7. تحرير الأسرى: أولوية لا تقبل التأجيل:

يشكّل ملف الأسرى صاعق تفجير وأحد أبرز عناوين طوفان الأقصى، ويجب البناء على ما تحقق لتحقيق صفقة تُعيد الحرية للأسرى، عبر توحيد الجهود السياسية والإعلامية، وتصعيد الضغط الشعبي والدولي.

8. الدولة الفلسطينية: من الحلم إلى التجسيد:

إقامة دولة فلسطينية على حدود الهدنة 1948 أو قرار التقسيم 181، واستثمار حجم الدعم الدولي والاعتراف المتزايد بدولة فلسطين، ودفع المجتمع الدولي نحو الاعتراف بهذه الدولة، وفضح ازدواجية المعايير الأمريكية.

9. تفعيل ساحات التواجد الفلسطيني والتكامل بين الداخل والخارج:

تفعيل جميع ساحات الفعل الفلسطيني، وخاصة فلسطينيي 48، والشتات، عبر توزيع أدوار تكاملية، وتفعيل الجاليات الفلسطينية كسفراء للقضية، وتوظيف الطاقات الإعلامية والدبلوماسية لتعزيز الوعي العالمي.

10. إعادة بناء العلاقات الخارجية الفلسطينية:

إن صمود غزة في وجه الحرب أعاد الزخم للقضية فلسطينية عالميًا، ويجب استثمار هذا الزخم عبر بناء تحالفات مع شعوب ودول العالم، وتوظيف العلاقات الشعبية والدبلوماسية لكسر الحصار السياسي، والارتقاء بمكانة فلسطين كفاعل إقليمي مركزي وفق ما حققته غزة بملحمتها الأسطورية.

 

لقد أثبتت ملحمة غزة أن الفلسطينيين قادرون على إعادة كتابة التاريخ متى امتلكوا الإرادة والوحدة. اليوم التالي ليس فقط مرحلة ما بعد الحرب، بل هو فرصة لتحويل الصمود إلى مشروع تحرر، والمعاناة إلى برنامج نهوض وطني شامل.


النضال الفلسطيني ليس فقط مقاومة ميدانية، بل هو مشروع تحرر وطني متكامل، يحتاج إلى عقل سياسي ناضج، وبوصلة جامعة، وإرادة شعب لا يُهزم.

﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21)

 

التعليقات (0)