-
℃ 11 تركيا
-
25 سبتمبر 2025
خالد سعيد نزال يكتب: هكذا تتحدث غزة ..وهكذا يصنع التاريخ .. الصمود الذي يغير موازين القوى في العالم
حركات المقاومة تحولات جيوسياسية عالمية
خالد سعيد نزال يكتب: هكذا تتحدث غزة ..وهكذا يصنع التاريخ .. الصمود الذي يغير موازين القوى في العالم
-
25 سبتمبر 2025, 10:41:55 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تهيئة : مشهد عالمي يتغير وأفق جديد يتشكل
ما يجري في إيطاليا وأوروبا اليوم هو انعكاس لتحول أعمق في موازين القوى العالمية، حيث لم تعد المقاومة الفلسطينية وحيدة في مواجهة المشروع الصهيوني، بل أصبحت قضية عالمية تتبناها حركات شعبية ونقابات عمالية ونشطاء حقوقيون في مختلف أنحاء العالم.
لقد نجحت مقاومة حماس ومثيلاتها من فصائل المقاومة، من خلال صمودها الأسطوري، في كسر القاعدة بمجرد بقائها، وتحولت إلى حامل راية في إقليم يتغير .
الحراك الإيطالي الذي يهدد بالامتداد لأوروبا، والاعترافات الدولية المتتالية بدولة فلسطين، ليست سوى البداية لمشهد جديد تُعيد فيه الشعوب حسابها لصالح الحق الفلسطيني، وتُعيد ترتيب أولوياتها بناءً على المبادئ الأخلاقية لا المصالح الضيقة، إنه المشهد الذي تتهاوى فيه الأساطير الصهيونية واحدة تلو الأخرى، وتبرز فيه فلسطين كقضية تحرر عالمية تنتصر فيها إرادة الشعوب على آلة الحرب والإعلام المزيف. تشهد إيطاليا تحولاً جوهرياً يمثل نموذجاً مصغراً للتحول العالمي الجاري لدعم القضية الفلسطينية، حيث لم يعد التضامن مجرد شعارات بل تحول إلى فعل مقاوم يبدأ بإيطاليا ويهدد بالامتداد لأوروبا. لقد أصبحت الشوارع الإيطالية مسرحاً لحراك شعبي تاريخي تجسّد في إضرابات عمال الموانئ الذين أوقفوا حركة الشحن احتجاجاً على الحرب، ومظاهرات حاشدة طالبت بقطع العلاقات مع إسرائيل، ومبادرات مثل "أسطول الصمود العالمي" الذي انطلق من موانئ صقلية نحو غزة محملاً بـ300 طن من المساعدات الإنسانية . هذا الحراك لم ينبثق من فراغ، بل جاء تتويجاً لتراكم وعي شعبي رافض للرواية الإسرائيلية والوصم الإعلامي الزائف للمقاومة. يمثل "أسطول الصمود العالمي" الذي انطلق من موانئ إيطاليا وإسبانيا وتونس تطوراً نوعياً في أشكال التضامن الدولي مع غزة، حيث تحوّل من التنديد إلى الفعل الملموس بمشاركة نشطاء من أكثر من 44 دولة . هذا الأسطول لم يكن مجرد قافلة مساعدات إنسانية، بل كان رسالة سياسية مدروسة تهدف إلى كسر الحصار وإعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة الدولية.
تأثير سياسي مزدوج يدرك منظمو الأسطول أن نجاحه في الوصول إلى غزة سيشكل سابقة تاريخية في كسر الحصار، بينما أي هجوم إسرائيلي عليه سيكون له تبعات سياسية وقانونية جسيمة على إسرائيل تفوق أي مكاسب عسكرية . وقد عبر عن هذا الرهان الناشط الإيطالي عبد الرحمن أماجو بقوله: "نريد أن نكون إشارة ملموسة إلى القرب والمقاومة" .
توثيق الانتهاكات خصص الأسطول مركباً يحمل اسم الصحفية الشهيدة شيرين أبو عاقلة لمهمة توثيق انتهاكات القانون الدولي، مما يشكل تراكماً في ملف إسرائيل القانوني الذي يزداد ثقلاً يوماً بعد يوم .
أحدثت عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023 زلزالاً في الصورة النمطية لإسرائيل كقوة قادرة على الردع . لقد أسقطت المقاومة الفلسطينية "نظرية الأمن الإسرائيلي" القائمة على مبادئ الردع والإنذار المبكر، وفكرة "الملاذ الآمن لليهود" التي كانت أساس المشروع الصهيوني . هذا التحول لم يكن عسكرياً فقط، بل كان أيضاً في مجال الرواية والإعلام، حيث رفضت الشعوب الأوروبية الإعلام الغربي المزيف الذي ظل لسنوات يروج للسردية الإسرائيلية ويشوه حركات المقاومة ويصفها بالإرهاب.
عبر متظاهر إيطالي في جنوة عن هذا الرفض بقوله: "نتعلم من الشعب الفلسطيني دروساً في الكرامة والمقاومة" ، مما يعكس تحولاً في التصور الجماهيري الأوروبي الذي لم يعد يصدق الرواية الإسرائيلية.
ووجهت عملية طوفان الأقصى ضربة قاسمة لمشاريع التطبيع الإسرائيلية، حيث أفقدت المقاومة "إسرائيل" قدرتها على تسويق نفسها كقوة رادعة وموثوقة في المنطقة حيث شهدت الساحة الدولية تحركات لافتة، من خلال دول مثل هولندا وكندا وبريطانيا خطوات عملية بإيقاف بعض عمليات نقل الأسلحة لإسرائيل بسبب "خطر واضح" يتمثل باستخدامها في انتهاكات خطيرة للقانون الدولي، في خطوة تمثل اتهامات واضحه وعزلة غير مسبوقة للكيان الإسرائيلي .
في هذا السيناريو الاستثنائي... تصمد حماس . فماذا يحدث عندما تختار المقاومة البقاء بدلاً من الفناء؟ كيف يتغير العالم عندما تتحول غزة من ساحة حرب إلى رمز عالمي للمقاومة؟ ومن يستفيد من هذا الصمود الذي يدفع ثمنه الأطفال والنساء والشيوخ بأرواحهم؟
الثورة ضد ثقافة الاستسلام
لم تبدأ معركة غزة في أكتوبر 2023، بل هي حلقة من حلقات الصمود المتواصل منذ النكبة عام 1948. الشعب الفلسطيني تعلم عبر أجيال متعاقبة أن التسليم لا يأتي إلا بالمزيد من التهجير والاضطهاد. كل اتفاقية سلام لم تزد الوضع إلا سوءاً، كل تنازل قاد إلى المزيد من المصادرة الاستيطانية.
دروس من التاريخ الحديث
عندما انسحب الاحتلال من غزة عام 2005، لم يكن ذلك هدية أو منحة، بل كان ثمرة لمقاومة شرسة استمرت سنوات. عندما أطلق سراح الأسرى في صفقات تبادل، كان ذلك بسبب المقاومة المسلحة وليس المفاوضات المجردة. هذه الدروس التاريخية تشكل العقل الجمعي للشعب الفلسطيني وتجعله يرفض أي وهم بالسلام عبر الاستسلام.
نحن لا نفاوض على السلاح... نفاوض على التحرير. لا نستجدي وقف النار... نفرضه. لا نطلب الخروج الآمن... نطالب بالعودة الآمنة للاجئينا." خالد مشعل
عندما يصبح الموت خياراً أفضل من الذل
"نحن لا نستجدي الحياة، بل نصنع الكرامة بأنفسنا". بهذه الكلمات يختزل مقاتلو غزة فلسفة صمودهم في وجه آلة الحرب الإسرائيلية الأكثر تطوراً في المنطقة. فما الذي يدفع شعباً بأكمله إلى اختيار المقاومة على الاستسلام، والموت على الركوع؟
وراء خطابات السياسة واستراتيجيات الحرب، تكمن قصة إنسانية مفجعة. فالشعب في غزة لم يختر الحرب، لكنه عندما أجبر عليها، اختار أن يموت واقفاً بدلاً من أن يعيش راكعاً. الثمن الذي يدفعه المدنيون ليس مجرد أرقام وإحصاءات، إنه قصص حقيقية لأطفال فقدوا ذويهم، وعائلات دُفنت تحت أنقاض بيوتها، وآباء وأمهات شاهدوا أبناءهم يموتون بين أيديهم.
هؤلاء الناس العاديون أصبحوا أبطالاً غير عاديين، يرفضون أن يكونوا ضحايا، ويصرون على أن يكونوا مقاومين حتى في أحلك لحظات المعاناة.
تحت الأنقاض في غزة، حيث يعيش أكثر من 2.4 مليون فلسطيني تحت حصار خانق مجوعين قصدا منهكين مقصوفين عمدا حتى في خيام النزوح الجديد وفقاً للأمم المتحدة ، تُكتب واحدة من أبرز ملاحم الصمود في التاريخ المعاصر. هنا، حيث ارتفع عدد الشهداء إلى أكثر من 178 ألف قتيل وجريح ،
واختفى أكثر من 11 ألف مفقود تحت الركام أو في سجون الاحتلال ، ترفض حماس الاستسلام. ترفض تسليم سلاحها. ترفض مغادرة قادتها غزة. ترفض التفريط في أسراها وترفض التنازل عن شبر من الأرض. لماذا لا يمكن لحماس أن تستسلم؟
هذا البحث الاستراتيجي الشامل، المدعوم بتحليل جيوسياسي عميق وتقارير دولية وتسريبات ، يُجيب على السؤال المصيري ماذا لو لم تستسلم حماس؟
المحور الأول: المكاسب السياسية والعسكرية والرمزية لصمود حماس
- التحول السياسي
من "منظمة إرهابية" إلى "حركة تحرر وطني"
لطالما سعت حماس إلى كسب الشرعية السياسية كحركة تحرر وطني، وصمودها في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية المدعومة غربياً يحقق لها هذا التحول الجوهري. فوفقاً لتحليل مركز الجزيرة للدراسات، فإن الحرب على غزة "كشفت عن تحولات جيوسياسية بدأت تتشكل في المنطقة، حيث لم تعد الولايات المتحدة القوة الوحيدة التي تحدد النظام الجيوسياسي في الإقليم" .
في العالم العربي يصعد خطاب "المقاومة والبطولة" على حساب خطاب "الإرهاب" الذي روّجت له إسرائيل وحلفاؤها. وتواجه الأنظمة العربية ضغوطاً شعبية غير مسبوقة للتغيير من موقفها أو على الأقل التوقف عن مطالبها باستسلام حماس. لقد أصبحت القضية الفلسطينية مرة أخرى محور الوحدة العربية الشعبية، إن لم تكن الرسمية.
في الغرب تتزايد التغطية الإعلامية المتوازنة ، خاصة في أوروبا، حيث بدأت وسائل الإعلام الرئيسية تتحدث عن "جرائم الحرب الإسرائيلية" و"الإبادة الجماعية" في غزة. وهذا ما تؤكده التقارير عن تصريحات صحيفة الغارديان البريطانية بأن "نحو 15 من كل 16 فلسطينياً استشهدوا على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي في مدينة غزة كانوا من المدنيين" . كما تتصاعد حركات التضامن الشعبي ومقاطعة البضائع الإسرائيلية (BDS) إلى مستويات قياسية، وتتحول إلى ضغوط برلمانية في إسبانيا وأيرلندا للاعتراف بحماس كـ"طرف مقاوم مشروع".
في الجنوب العالمي يتعزز الدعم الدولي لحماس، حيث تقدم دول مثل جنوب أفريقيا والبرازيل التي انضمت إلى دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية دعماً سياسياً وقانونياً غير مسبوق.
وتتحول حماس من منظمة معزولة إلى "طرف متضرر مشروع" في المحافل الدولية.
2. المكاسب العسكرية: تعزيز الردع وإفشال مشروع "إسرائيل الآمنة"
يكمن أحد أهم مكاسب الصمود في تعزيز قدرات الردع الاستراتيجي للمقاومة، فكل يوم تصمد فيه حماس يثبت أن إسرائيل ليست حصينة وأن جيشها الذي يُوصف بأنه "لا يقهر" يمكن هزيمته، وكما يشير تحليل أنطولوجيا المقاومة (Ontology)، فإن "الكمين الذي وقع في بيت حانون يثبت أن حماس قادرة على تطبيق متطلبات الحرب غير المتماثلة بمهارة رغم التفوق التكنولوجي والاستطلاعي الكبير لإسرائيل" .
إفشال الهدف الإسرائيلي لم تعد إسرائيل تتحدث عن "القضاء على حماس" بل عن "إدارة التهديد"، وهو اعتراف ضمني بالفشل في تحقيق الأهداف الأساسية للحرب.
تطوير أساليب المقاومة تطور حماس قدراتها العسكرية باستمرار، من خلال الصواريخ المحسنة ، والطائرات المسيرة البحرية ، و الأنفاق العميقة التي تُحفر حتى أثناء الحرب ، والهجمات الإلكترونية. لقد أصبحت المقاومة أكثر ذكاءً وتنظيماً.
رفع كلفة الاحتلال تُنفق إسرائيل أكثر من 100 مليون دولار يومياً على الحرب دون تحقيق نصر حاسم، مما يؤدي إلى انهيار الاقتصاد الإسرائيلي وتصاعد الاحتجاجات الداخلية المطالبة بإعادة الأسرى وإنهاء الحرب.
3. المكاسب الرمزية: تحول غزة إلى أيقونة عالمية للكرامة
لم يعد صمود غزة مجرد قضية عسكرية أو سياسية، بل تحول إلى رمز عالمي للكرامة والمقاومة ضد الظلم. لقد تجاوزت رمزية غزة الحدود الجغرافية لتتحول إلى "فكرة لا تُقهر" كما يقول المثقف العربي المجهول في منشوره الذي تمت مشاركته مليوني مرة .
في العالم الإسلامي أصبحت حماس "نموذج المقاومة التي لا تركع"، مصدر إلهام للأجيال الجديدة التي ترفض الاستسلام للهيمنة.
في أفريقيا وأمريكا اللاتينية أصبحت غزة رمزاً للتحرر من الهيمنة الغربية، حيث تربط الحركات المناهضة للاستعمار بين نضالها ونضال الفلسطينيين.
في أوروبا وأمريكا الشمالية أصبحت غزة مصدر إلهام لحركات العدالة الاجتماعية التي تربط بين كفاح الفلسطينيين وكفاح السود والسكان الأصليين ضد الأنظمة القمعية.
المحور الثاني: التحولات الدبلوماسية والقانونية: كيف يتعامل العالم مع صمود حماس؟
1. التغير في الموقف الأوروبي: من التمزق إلى إعادة التقييم
كشفت أزمة غزة عن انقسامات عميقة داخل الاتحاد الأوروبي في التعامل مع حماس والقضية الفلسطينية. فبينما أعلن مفوض سياسات الجوار والتوسع في الاتحاد الأوروبي تعليق جميع المساعدات التنموية للفلسطينيين البالغة 691 مليون يورو، انقسمت الدول الأوروبية في ردود فعلها إسبانيا وإيرلندا وبلجيكا قادت اتجاهًا يدعو إلى مراجعة تصنيف حماس كمنظمة إرهابية، وطالبت بوقف فوري لإطلاق النار وحماية المدنيين. وهذا يعكس تقليداً قديماً في هذه الدول بتعاطف أكبر مع القضية الفلسطينية ، ألمانيا والنمسا والمجر والتشيك حافظت على موقف أكثر تأييداً لإسرائيل، حيث أصرت على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" وعلقت المساعدات عن الفلسطينيين، فرنسا وإيطاليا اتخذت موقفاً وسيطاً، دعت إلى حل سياسي ووقف إطلاق النار دون المرور إلى تغيير جذري في الموقف من حماس.
لكن مع استمرار صمود حماس وتصاعد الفظائع الإسرائيلية، بدأ هذا المشهد يتغير. فكما يشير التقرير حول التداعيات الجيوسياسية، فإن "اللحظة الأميركية في الشرق الأوسط تتلاشى أمام تحول نمطي في المسرح الجيوسياسي ما زالت الولايات المتحدة لاعباً رئيسياً لكن ليس وحيداً" وهذا يفتح المجال أمام أوروبا لتبني سياسة أكثر استقلالية.
2. الجنوب العالمي: من الصمت إلى الصوت العالي
أما في الجنوب العالمي، فقد أصبح صمود حماس عاملاً محفزاً لتحول جيوسياسي كبير ، حيث تتصدر دول مثل جنوب أفريقيا والبرازيل وفنزويلا وزيمبابوي وماليزيا وإندونيسيا حملة دولية لمحاسبة إسرائيل.
الدعم الدبلوماسي تدعو هذه الدول إلى اعتراف كامل بحماس كطرف شرعي في النزاع، وتطالب بمقعد لها في المحافل الدولية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني في غزة.
الدعم القانوني تقدم هذه الدول دعماً قانونياً غير مسبوق، حيث تشارك في دعاوى قضائية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية، مستندة إلى تقارير أممية تؤكد أن "ما يجري في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023 يرقى إلى جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان" .
الدعم الإنساني ينشئ قنوات إغاثة بديلة لتجاوز الحصار الإسرائيلي، ويقدم مساعدات طبية وغذائية مباشرة إلى غزة.
3. الولايات المتحدة: بين العزلة والتكيف مع الواقع الجديد
تواجه الولايات المتحدة معضلة استراتيجية حقيقية. فمن ناحية، تظل محتلة لدور الداعم الرئيسي لإسرائيل، حيث تواصل تقديم الدعم العسكري والدبلوماسي غير المحدود تقريباً. ولكن من ناحية أخرى، تدرك الإدارة الأمريكية أن استمرار الصمود الفلسطيني وتصاعد الغضب العالمي يفرض عليها تكاليف باهظة.
الفيتو الأمريكي: اختبار فاضح لإرادة المجتمع الدولي
في مشهد متكرر يعكس العمق الاستراتيجي للتحالف الأمريكي-الإسرائيلي، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) للمرة السادسة على التوالي لحماية اسرائيل واطلاق يدها والتغول الذي تمارسه لإفشال قرار تاريخي في مجلس الأمن كان يطالب بوقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار في غزة، وذلك رغم تأييد 14 دولة من أصل 15 دولة في المجلس، بما في ذلك دول دائمة العضوية مثل فرنسا والصين، مما يظهر العزلة الدولية المتزايدة لواشنطن وتل أبيب .
لم يكن القرار مجرد دعوة لوقف إطلاق النار، بل تضمن مطالب إنسانية وقانونية أساسية، منها رفع جميع القيود المفروضة على دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة فوراً ودون قيد أو شرط، وضمان توزيعها بشكل آمن، والإفراج الفوري عن جميع المحتجزين . وقد جاءت هذه المطالب رداً على الإعلان الرسمي للأمم المتحدة عن وقوع مجاعة في أجزاء من القطاع .
بررت المبعوثة الأمريكية مورغان أورتيغوس استخدام الفيتو بالادعاء أن القرار "لم يتضمن إدانة لحماس أو الاعتراف بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، معتبرة أنه يمنح شرعية لـ"سرديات حماس الزائفة" . هذا الموقف يعكس بشكل صارخ الفجوة بين الخطاب الدبلوماسي والواقع على الأرض، حيث يُستخدم الفيتو لحماية استمرار العمليات العسكرية.
تداعيات الفيتو: شرعية متآكلة وعزلة متعمقة
سخط دولي واسع أعرب دبلوماسيون عن غضبهم وإحباطهم من عجز المجلس. وصف السفير الباكستاني الوضع بأنه "لحظة قاتمة"، بينما طلب السفير الجزائري طلب المغفرة من أهل غزة لأن المجلس "لم يتمكن من إنقاذ أطفالهم .
إدانة فلسطينية موحدة وصفت حركة "حماس" الفيتو بأنه "تواطؤ سافر وشراكة كاملة في جريمة الإبادة الجماعية" و"ضوء أخضر لاستمرار القتل والتجويع". كما أدانت الفصائل الأخرى مثل الجبهة الشعبية حركة الجهاد الإسلامي الموقف الأمريكي .
تساؤلات حول جدوى مجلس الأمن أثار تكرار استخدام الفيتو تساؤلات جادة حول دور المجلس وفاعليته، حيث بات مُعطلاً بشكل منهجي عن حماية المدنيين، مما يدفع نحو الدعوة لآليات دولية جديدة بعيداً عن هيمنة القوى العظمى .
هذا الفيتو ليس مجرد حادثة عابرة، بل هو تعبير صارخ عن انهيار الشرعية في النظام الدولي الحالي القائم على هيمنة القوى العظمى. إنه يقدم الدليل الأقوى على أن التغيير الحقيقي لن يأتي من داخل قاعات مجلس الأمن المقيدة بحق النقض، بل من الضغط الشعبي العالمي المتصاعد في الشوارع، ومن تحول موازين القوى الإقليمية والدولية التي بدأت تفرض حقائق جديدة، تماماً كما تظهر الحركات الاحتجاجية في إيطاليا وأوروبا التي تم الاشارة اليها في بداية المقال. هذا التواطؤ الرسمي هو من يقوض مصداقية النظام الدولي ذاته، بينما تثبت إرادة الشعوب أنها القوة الأكثر فاعلية في تغيير المعادلات.
الضغط الداخل الامريكي تتصاعد الاحتجاجات الطلابية في أعرق الجامعات الأمريكية، وتنقسم المشهد السياسي بين مؤيد لإسرائيل ومؤيد للحقوق الفلسطينية، مما يجعل من الصعب الحفاظ على سياسة متجانسة.
الضغط الدولي تتعرض الولايات المتحدة للعزلة الدبلوماسية في المحافل الدولية، حيث تجد نفسها في موقف الأقلية التي تستخدم الفيتو ضد قرارات وقف إطلاق النار وتقديم المساعدات الإنسانية.
الحل الوسط: رغم الموقف الرسمي، تسمح الولايات المتحدة بصمت لقطر وتركيا ومصر بفتح قنوات اتصال غير مباشرة مع حماس، في محاولة لإدارة الأزمة دون الاعتراف العلني بالحركة.
المحور الثالث: تأثير الصمود على حركات المقاومة العالمية: إلهام الثورات
1. حزب الله في لبنان: دروس في الردع الاستراتيجي
يستمد حزب الله من صمود حماس دروساً عميقة في فنون الردع والحرب غير المتماثلة. فكما يقول قيادي في الحزب في تسريب لصحيفة الأخبار اللبنانية: "صواريخ غزة أربكت إسرائيل... فكيف سيكون الحال لو تحركنا نحن؟" . وهذا يترجم على الأرض إلى:
تعزيز الخطاب المقاوم في لبنان ورفع الجاهزية القتالية للحزب.
تحديث الترسانة العسكرية وتطوير صواريخ دقيقة قادرة على تهديد العمق الإسرائيلي.
الضغط على الحكومة اللبنانية لتبني موقف أكثر صرامة تجاه إسرائيل ورفض أي تسوية تمس بحق المقاومة .
2. الحوثيون في اليمن: من القبيلة إلى العالمية
أصبحت "غزة" العنوان المركزي لخطاب الحوثيين في اليمن، حيث يربطون بشكل متزايد بين نضالهم ضد العدوان السعودي والإماراتي المدعوم أمريكياً ونضال الفلسطينيين ضد إسرائيل. وكما يعلن محمد البخيتي، المتحدث باسم الحوثيين :
"غزة علمت العالم أن القوة ليست في السلاح... بل في الإرادة. نحن في اليمن... لدينا الإرادة... وسنبني السلاح" .
تصعيد الهجمات على السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، واستهداف المصالح الإسرائيلية في المنطقة.
تطوير صواريخ ودروعا مستوحاة من تجربة حماس، وقادرة على تحقيق اختراقات نوعية.
بناء تحالفات إقليمية جديدة مع قوى المقاومة، وفتح جبهة إعلامية وسياسية موحدة.
3. حركات المقاومة الأخرى: من الصومال إلى أمريكا اللاتينية
يمتد تأثير صمود غزة إلى أبعد من الشرق الأوسط، حيث أصبح مصدر إلهام لحركات المقاومة والتحرر في كل مكان:
في الصومال تعلن حركة الشباب المجاهدين أن "غزة تُعلّمنا أن المقاومة ليست خياراً... بل ضرورة وجود" ، وتستخدم رمزية غزة في الدعاية والتجنيد، ومحاولة بناء أنفاق وصواريخ محلية.
في سوريا يُحيي الناشطون السوريون في إدلب وحلب خطاب المقاومة، رافعين شعار
"إذا صمدت غزة... فدمشق لن تركع" ، ومحاولين بناء خلايا مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي في هضبة الجولان.
في العراق تصعد المليشيات الموالية لإيران لهجتها ضد القواعد الأمريكية، مستخدمة ذريعة "دعم غزة" لتبرير هجماتها.
في أمريكا اللاتينية ترفع حركات زاباتا في المكسيك وفصائل مناهضة للرأسمالية في تشيلي وكولومبيا رايات غزة في نضالها ضد الهيمنة الغربية، وتربط بين القضية الفلسطينية وقضايا التحرر الوطني.
المحور الرابع: التحديات والتضحيات: الثمن الباهت للصمود
وراء كل هذه المكاسب والتحولات، يظل الثمن البشري والمادي الذي يدفعه الشعب الفلسطيني في غزة باهظاً وغير مسبوق. فالصمود ليس مجرد بطولة، بل هو دماء وأشلاء وأطفال بلا آباء، كما تقول أم لثلاثة شهداء في مقابلة مع Middle East Eye .
1. التكاليف البشرية: شهداء وجرحى ومفقودون
تشير الأرقام إلى أن عدد الشهداء في غزة تجاوز 178 ألف قتيل وجريح ، معظمهم من الأطفال والنساء . بالإضافة إلى ذلك، هناك أكثر من 11 ألف مفقود تحت الأنقاض أو في سجون الاحتلال . وتقول تقارير الأمم المتحدة إن عدد المفقودين يتراوح بين 8 آلاف و11 ألف حالة، غالبيتهم من النساء والأطفال .
2. التحديات اللوجستية: نقص السلاح والغذاء والدواء
تواجه حماس تحديات لوجستية هائلة في استمرار المقاومة، حيث تعاني من نفاد السلاح والذخيرة، والحصار الخانق الذي يمنع وصول الغذاء والدواء. وكما يقول مقاتل في كتائب القسام: "نحن نقاتل ببنادق عمرها 20 سنة... وصواريخ مصنوعة من خردة... لكن إرادتنا جديدة" . وقد دفع الحصار الإسرائيلي 2.4 مليون فلسطيني في غزة إلى مجاعة غير مسبوقة ، وفقاً للأمم المتحدة .
3. الضغوط الدولية: العزلة والعقوبات
رغم التعاطف الشعبي العالمي، تواجه حماس ضغوطاً دولية متصاعدة، حيث تفرض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مزيداً من العقوبات على قادة الحركة، وتجمد أي دعم مالي عبر البنوك الدولية، وتشن حملة إعلامية مكثفة لتشويه صورة المقاومة ووصفها بالإرهاب.
المحور الخامس: السيناريو الجيوسياسي الكبير: ولادة "محور المقاومة" العالمي
إذا صمدت حماس، فإنها لا تنتصر فقط في معركة غزة، بل تُحدث تحولاً جيوسياسياً تاريخياً في المنطقة والعالم. وكما يقول الشهيد السيد حسن نصرالله:
"غزة لم تعد وحدها... غزة أصبحت قبلة... لكل من يرفض الذل" .
1. تشكل محور المقاومة : من طهران إلى صنعاء إلى بيروت
يتشكل محور مقاومة متكامل يضم إيران وحزب الله والحوثيين وحماس وسوريا، يتمتع بـ:
تنسيق عسكري غير مسبوق في العمليات والاستخبارات والتدريب.
جبهة إعلامية موحدة تبث من غزة وبيروت وصنعاء ودمشق، وتنافس وسائل الإعلام الغربية في صناعة الرواية المضادة.
بالإضافة الى القدرة على فتح جبهات متعددة ضد إسرائيل، مما يشكل تهديداً وجودياً لها.
2. انهيار مشروع التطبيع الشعوب ضد حكامها
ينهار مشروع التطبيع العربي مع إسرائيل، حيث تمنع الضغوط الشعبية الهائلة الحكام العرب من المضي قدماً في التطبيع، بل تدفعهم إلى تبني خطاب أكثر تشدداً تجاه إسرائيل وبعد ما اصاب الدوحة من هجوم فج لم يراعي خطوط حمراء او زرقاء او خضراء كما وصفها . لقد أصبحت القضية الفلسطينية مرة أخرى محور الوحدة العربية الشعبية.
3. ولادة نظام عالمي جديد: تعددية الأقطاب
يشكل صمود غزة عاملاً مساعداً في ولادة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب ، لا تهيمن عليه الولايات المتحدة والغرب فقط، بل تشارك فيه قوى إقليمية ودولية صاعدة. وكما يشير تحليل مركز الجزيرة للدراسات، فإن "اللحظة الأميركية في الشرق الأوسط تتلاشى" , مما يفسح المجال لصعود قوى مثل الصين وروسيا وإيران وتركيا.
كلمة أخيرة للمستسلمين طوعا ....... او ضغطا
للذين يطالبون حماس بالاستسلام إنكم تطلبون منها انتحاراً جماعياً وتخلياً عن كرامة شعب بأكمله. بدلاً من مطالبة المقاومين بتسليم سلاحهم، لماذا لا تطالبون إسرائيل بوقف عدوانها؟ بدلاً من الضغط على حماس لتسليم أسرىها، لماذا لا تضغطون على إسرائيل لإطلاق سراح آلاف المعتقلين الفلسطينيين؟ بدلاً من التحدث عن "خروج آمن" لمقاتلي حماس، لماذا لا تتحدثون عن حق العودة الآمن للاجئين الفلسطينيين؟
الصمود في غزة ليس مجرد معركة عسكرية، إنه معركة كرامة وإرادة. إنه درس للعالم أجمع أن القوة لا تكمن في التفوق التكنولوجي أو العسكري، بل في الإرادة البشرية التي ترفض الانكسار.
غزة تقول للعالم: نحن لا نستجدي الحياة، بل نصنع الكرامة بأنفسنا. ونحن مستعدون لدفع الثمن غالياً من دمائنا وأجسادنا، لأننا نعلم أن الأجيال القادمة ستذكر أن أسلافها فضلوا الموت وقوفاً على العيش راكعين.
هذه هي الرسالة التي يجب أن تصل للعالم: لن نستسلم، لأن الاستسلام أسوأ من الموت. ولأن كرامة شعب بأكمله لا تقدر بثمن.
الخاتمة: حيث يُخلق المستقبل من العدم ... وحيث يُدفن الضمير العالمي
غزة لا تركع. هذا هو الدرس الأهم الذي تقدمه حماس للعالم. ففي وقت تخلت فيه الأنظمة العربية عن القضية الفلسطينية، واستسلمت منظمة التحرير الفلسطينية وأصبحت "تفتقر إلى الشرعية" في عيون شعبها , ترفض حماس الاستسلام. ترفض التسليم. ترفض أن تكون ضحية.
لو صمدت حماس، فلن تربح فقط معركة غزة، بل ستفوز بمعركة التاريخ. ستعيد تعريف معنى "المقاومة". ستعيد رسم خريطة التحالفات. ستعيد إحياء الأمل في قلوب المقهورين في كل مكان.
"هم يطلبون منا أن نسلم السلاح... لكنهم نسوا... أن الشعب نفسه... هو السلاح. وأن الأرض... لا تُستسلم... حتى لو سُلّم من عليها."
هكذا تتحدث غزة. وهكذا يصنع التاريخ.










