-
℃ 11 تركيا
-
2 أغسطس 2025
اسماعيل جمعه الريماوي يكتب: من الفوضى إلى التبعية: خريطة إسرائيلية جديدة لسوريا والمنطقة
اسماعيل جمعه الريماوي يكتب: من الفوضى إلى التبعية: خريطة إسرائيلية جديدة لسوريا والمنطقة
-
1 مايو 2025, 8:41:17 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
خريطة إسرائيلية لسوريا
منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، لم تتعامل إسرائيل مع المشهد السوري بوصفه صراعًا داخليًا عابرًا، بل كفرصة استراتيجية لإعادة صياغة التوازنات في الجغرافيا السورية بما يخدم أمنها ومشروعها التوسعي. وبينما كانت أنظار العالم متجهة إلى المعارك الدامية في المدن السورية، كانت تل أبيب ترسم خريطة جديدة للمنطقة انطلاقًا من معادلة بسيطة: لا لعودة سوريا كدولة موحدة ذات قرار سيادي.
منذ احتلال الجولان عام 1967، بقيت سوريا في وعي النخبة السياسية والعسكرية الإسرائيلية تمثل التهديد الأكثر تعقيدًا على الجبهة الشمالية، فقد رفضت دمشق الدخول في أي تسوية منفردة، واحتضنت المقاومة الفلسطينية، ودعمت حزب الله في لبنان، وأبقت جبهة الجولان مؤهلة للاشتعال. لذلك، فإن تفكك الدولة السورية خلال العقد الأخير اعتُبر في تل أبيب تحوّلًا تاريخيًا نادرًا يجب استثماره بالكامل.
مع تعمّق الانقسام الداخلي وتعدّد مناطق السيطرة، رأت إسرائيل في الفوضى السورية بيئة خصبة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، وفي مقدّمتها: تفكيك وحدة الأرض والجيش والمؤسسات، وتحجيم النفوذ الإيراني، ومنع نشوء جبهة مقاومة متصلة، وخلق واقع حدودي آمن ومستقر على الجانب المحتل من الجولان. وتحت غطاء "الدفاع عن النفس"، كثّفت إسرائيل ضرباتها الجوية، مستهدفة مواقع عسكرية سورية وإيرانية على حد سواء، ضمن سياسة استنزاف طويلة الأمد.
لم يقتصر الدور الإسرائيلي على الغارات الجوية، فقد استخدمت تل أبيب أدوات متعددة لتقويض الدولة السورية، منها: الهجمات الدقيقة على مراكز البنية الدفاعية، والمطارات، وأنظمة الرادار، والرسائل السياسية المتكررة التي تحذّر من التموضع الإيراني لتبرير التصعيد، ودعم غير مباشر لبعض الجماعات في الجنوب السوري، وتقديم مساعدات إنسانية مشروطة، ضمن ما يمكن وصفه بـ "إدارة الفوضى".
حتى في حال تغيّر السلطة في دمشق ووصول حكومة جديدة إلى الحكم كما هو الان، فلا يُتوقع أن تغيّر إسرائيل نهجها. فالهواجس الأمنية الإسرائيلية لا تتعلق بالأسماء، بل بطبيعة الدولة ، فأي حكومة تسعى لبناء جيش محترف، أو تعيد تموضع سوريا كدولة مقاومة، ستُعامل كعدو محتمل. لذا، تواصل إسرائيل قصف المنشآت الاستراتيجية حتى في ظل تغيّر الحكومة، بهدف تعطيل أي محاولات لتعافي الدولة، وإحراج القيادة الجديدة داخليًا، وفرض معادلات ردع تمنع تبنّي سياسات مستقلة في ملفات مثل الجولان أو العلاقة مع طهران.
رد على التمدد الإيراني
كانت إسرائيل ترويج لضرباتها في سوريا باعتبارها ردًا على التمدد الإيراني، لكنها في الواقع تسعى لإحباط أي صيغة عسكرية أو أمنية يمكن أن تعيد تشكيل محور مقاوم يمتد من طهران إلى بيروت عبر دمشق. ومن هنا، فإن استهداف قادة في الحرس الثوري أو حزب الله داخل سوريا لم يكن استثناءً، بل كان جزءًا من استراتيجية استباقية لإبقاء الجبهة الشمالية مجرّدة من عناصر القوة.
الأخطر من كل ما سبق أن إسرائيل لا تسعى فقط إلى تقويض المؤسسات، بل إلى تفتيت الهوية السورية الجامعة ، فالتشجيع على التقسيم الطائفي والعرقي، وإدامة واقع مناطق النفوذ، واستنزاف البنية الاقتصادية والاجتماعية، تصب جميعها في هدف بعيد المدى: تحويل سوريا إلى دولة عاجزة عن تشكيل تهديد وجودي أو حتى معنوي لإسرائيل.
وفي إطار ذلك، تسعى إسرائيل على المدى البعيد إلى تثبيت نموذج "سوريا المفيدة"، لا ككيان موحّد ذي سيادة، بل كأقاليم متنازعة بينها دويلات وظيفية، على رأسها دولة هشة موالية لإسرائيل بشكل غير مباشر في الجنوب السوري، تعمل كحزام أمني وتُستخدم كورقة ضغط بوجه أي حكومة مركزية تتطلع لاستعادة القرار السيادي.
اليوم، تتقاسم الأرض السورية أربع قوى: الدولة السورية، القوات الأمريكية–الكردية، تركيا، وروسيا ، في هذا المشهد، تقف إسرائيل كقوة ظلّ تضرب دون احتلال كامل ، وتؤثر دون وجود ميداني واسع ، وتراهن على الزمن لتثبيت معادلة مفادها: لا سوريا قوية بعد اليوم.
إن ما تفعله إسرائيل في سوريا ليس استثمارًا في الفوضى فحسب، بل محاولة لتدمير الفكرة السورية نفسها: الدولة الموحدة، المقاومة، السيادة. والمعركة القادمة لن تكون فقط في السماء أو على الأرض، بل في الوعي، في الهوية، وفي الإيمان بأن سوريا قادرة على النهوض من جديد رغم كل الدمار.
رسائل ما وراء الحدود: كيف تخاطب إسرائيل دول الجوار من خلال سوريا؟
ما يجري في سوريا ليس شأنًا سوريًا خالصًا، بل يحمل في طياته رسائل استراتيجية موجهة بعناية إلى دول الجوار العربي والإقليمي. فإسرائيل لا تكتفي بتفكيك الدولة السورية، بل تستخدم هذا التفكك كنموذج تحذيري موجّه إلى كل من يفكر خارج حدود المعادلة الإسرائيلية–الأمريكية.
ومن أبرز هذه الرسائل: لا حصانة لأي دولة ترفض الانخراط في النظام الإقليمي الذي ترعاه واشنطن وتضمنه تل أبيب ، فسوريا، الدولة القومية المقاومة، تحوّلت إلى ساحة مدمّرة بفعل عنادها السياسي واستقلال قرارها، القوة وحدها لا تكفي إن لم تكن ضمن المنظومة المقبولة، إسرائيل تثبت أنها قادرة على شلّ جيوش وإفشال حكومات دون خوض حرب تقليدية، عبر الضربات الدقيقة، والحصار، والتفكيك الداخلي.
التطبيع هو الخيار الآمن للدول التي تخشى مصير سوريا ، فالمقارنة باتت حاضرة: إما نموذج الدمار السوري، أو النموذج الإماراتي–البحريني الذي حصل على الرضا الإسرائيلي مقابل التنازلات السياسية.
المنطقة لا تُدار إلا بموافقة إسرائيل ، عبر ما تفعله في سوريا، ترسل إسرائيل إشارات واضحة بأن أي ترتيبات أمنية أو سياسية في الشرق الأوسط يجب أن تمرّ عبر بوابتها ، إن سوريا اليوم ليست فقط ضحية مشروع تقسيم، بل منصة تُستخدم لإعادة رسم الخريطة الذهنية والسياسية للمنطقة. وإسرائيل، من خلف الستار، تتحدث إلى الجيران بلغة النار والصمت في آنٍ واحد: من لا يتماهى مع أمنها ويكون تابعا ، و اما الفوضى بلا امن أو استقرار .









