-
℃ 11 تركيا
-
13 يونيو 2025
مالك بن نبي: رائد النهضة الفكرية في العالم الإسلامي
النشأة والبدايات التعليمية
مالك بن نبي: رائد النهضة الفكرية في العالم الإسلامي
-
8 مايو 2025, 7:07:26 م
-
422
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
مالك بن نبي
يُعد المفكر الجزائري مالك بن نبي أحد أعلام الفكر الإسلامي في القرن العشرين، وقد تميز برؤية فكرية عميقة سعت إلى تشخيص مشكلات الحضارة ووضع حلول لمسارات النهوض في العالم الإسلامي. ومن خلال كتبه ومحاضراته، ترك بصمة واضحة على الفكر الإسلامي الحديث.
النشأة والبدايات التعليمية
ولد مالك بن نبي في 1 يناير 1905 الموافق لـ 5 ذي القعدة 1323 هـ في مدينة قسنطينة شرق الجزائر. نشأ في أسرة محافظة، حيث كان والده موظفًا في القضاء الإسلامي، الأمر الذي كان له أثر في تكوينه الديني والفكري. انتقل في سن مبكرة إلى تبسة لمتابعة دراسته في المدرسة الفرنسية، وتخرج منها سنة 1925 بعد أربع سنوات من الدراسة.
التجربة الفرنسية الأولى: إخفاق وبداية وعي
بعد تخرجه، سافر إلى فرنسا مع أحد أصدقائه، لكن تجربته هناك كانت قصيرة وفاشلة، فعاد إلى الجزائر حيث بدأ رحلة جديدة في البحث عن عمل. وكان من أبرز محطاته في هذه الفترة عمله في محكمة أفلو عام 1927، حيث احتكّ بالطبقات الفقيرة من المجتمع الجزائري، ما ساعده على تكوين رؤية اجتماعية ناضجة حول الواقع الاستعماري في بلاده.
ومع ذلك، قدم استقالته سنة 1928 بعد خلاف مع كاتب فرنسي في المحكمة، ما كشف مبكرًا عن روح التمرد والكرامة لديه.
العودة إلى فرنسا: التحول العلمي
في سنة 1930، قرر مالك بن نبي السفر مرة أخرى إلى فرنسا، لكن هذه المرة بغرض طلب العلم. ورغم رغبته في دراسة العلوم الشرقية، فقد اصطدم بعنصرية الاستعمار الفرنسي الذي منع الجزائريين من الالتحاق بتلك المعاهد. فاختار دراسة الهندسة اللاسلكية، متجهًا نحو المجال التقني، بعيدًا عن السياسة أو القانون.
الكتابة والانخراط في القضايا الفكرية
خلال إقامته في فرنسا، انغمس بن نبي في الحياة الفكرية، وتزوج من فرنسية، ثم بدأ في تأليف أولى كتبه. وكان أول ما صدر له هو "الظاهرة القرآنية" عام 1946، تلاه كتابه الأبرز "شروط النهضة" عام 1948، الذي طرح فيه مفهومه الشهير "القابلية للاستعمار".
ثم جاء كتاب "وجهة العالم الإسلامي" عام 1954، ليؤسس لفكر إصلاحي شامل، يربط بين الواقع السياسي والتخلف الحضاري، ويبحث في جذور الأزمة الفكرية للعالم الإسلامي.
النشاط الفكري في مصر ودور الثورة الجزائرية
مع انطلاق الثورة الجزائرية سنة 1954، انتقل مالك بن نبي إلى القاهرة، حيث لقي ترحيبًا كبيرًا من النخب الفكرية والسياسية. وهناك كتب عدة مؤلفات مهمة، من بينها "الفكرة الإفريقية الآسيوية" (1956)، والتي شكلت جزءًا من تصوره للوحدة بين شعوب الجنوب العالمي.
العودة إلى الجزائر والعمل الرسمي
بعد استقلال الجزائر، عاد مالك بن نبي إلى أرض الوطن، وتم تعيينه مديرًا لـ التعليم العالي، والذي كان مقتصرًا على جامعة الجزائر المركزية آنذاك. لكنه استقال سنة 1967، ليتفرغ للكتابة والتأمل، حيث بدأ في تأليف مذكراته الشهيرة تحت عنوان "مذكرات شاهد القرن"، والتي صدر منها قسمان: الطفل (1965) والطالب (1970).
مشروع "مشكلات الحضارة": تشريح واقع التخلف
واحدة من أبرز مساهمات بن نبي الفكرية تمثلت في سلسلة "مشكلات الحضارة"، التي بدأ كتابتها في باريس، واستكملها في مصر ثم الجزائر. ومن بين أبرز عناوين هذه السلسلة:
الظاهرة القرآنية (1946)
شروط النهضة (1948)
فكرة كومنولث إسلامي (1958)
الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة (1959)
تأملات (1961)
في مهب المعركة (1962)
مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي (1970)
المسلم في عالم الاقتصاد (1972)
بين الرشاد والتيه (1972)
كما ألقى العديد من المحاضرات مثل "دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين"، والتي تعكس حرصه الدائم على ربط الفكر بالواقع.
إرثه وتأثيره على الفكر الإسلامي
تحلّى مالك بن نبي بثقافة منهجية متميزة، مكّنته من وضع يده على جذور التخلف الحضاري في العالم الإسلامي، وطرح معالجات فكرية عميقة لا تزال تُدرَّس وتناقش حتى اليوم. لقد ركز على إصلاح الإنسان والفكرة والمجتمع كمدخل لبناء الحضارة.
وقد اعتبره الكثير من الباحثين أحد أبرز المفكرين العرب والمسلمين في القرن العشرين، لما قدّمه من أفكار أصيلة تتجاوز الانفعال السياسي إلى البناء الحضاري المتين.
إن سيرة مالك بن نبي ليست مجرد مسيرة علمية أو فكرية، بل هي تجربة حضارية متكاملة. فقد تنقل بين العوالم المختلفة: من الجزائر إلى فرنسا ثم مصر، ومن الهندسة إلى الفكر، ومن الوظيفة إلى التأليف، جامعًا بين العمق التحليلي والالتزام الأخلاقي بقضايا أمته. وها هو اليوم، بعد عقود من وفاته، لا يزال حاضرًا في وجدان كل باحث عن النهضة والكرامة.
.jpeg)









