سحر الورق

شيماء حسين تكتب: رائحة الورق... عشق لا يُفسَّر بسهولة

profile
شيماء حسين كاتبة عراقية
  • clock 3 سبتمبر 2025, 1:15:31 م
  • eye 496
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
Slide 01
تعبيرية

في عصر الشاشات اللامعة والكتب الإلكترونية والتطبيقات الذكية، ما زال هناك من يفتح كتابًا قديمًا، يقربه من أنفه ويأخذ نفسًا عميقًا كما لو أنه يشمُّ عبير الذكريات. أناسٌ حين يدخلون مكتبة، لا يبحثون فقط عن العناوين، بل يتجولون بين الأرفف كما لو كانوا يزورون معبدًا مقدسًا، يمررون أصابعهم على الأغلفة، ويتنفسون عطر الورق كأنه عطر الزمن نفسه.لكن سؤالي؟ ما سرُّ هذا العشق الغريب لرائحة الورق والكتب؟هل هو مجرد عادة مكتسبة؟ أم حالة نفسية؟ أم ربما إرثٌ وراثي؟ أم أن الأمر أعمق من كل ذلك؟


بين الحبر والحنين جاذبية لا تُرى رائحة الورق ليست مجرد رائحة عابرة، إنها مزيج معقد من مركبات عضوية تنبعث من الورق والحبر والمادة اللاصقة وحتى من أثر الزمن نفسه، خاصة في الكتب القديمة. بعض الباحثين يشبهونها برائحة الفانيليا والخشب واللوز المجفف، وهي روائح تثير في الدماغ مشاعر الراحة والأمان.


وإن هذا التفاعل بين العقل والرائحة ليس ترفًا، بل هو علم قائم بذاته يُعرف بـ"علم الشم العاطفي"، حيث يرتبط الشم بمنطقة الذاكرة والمشاعر في الدماغ، ولهذا فإن رائحة الكتب يمكن أن تعيدك فجأة إلى طفولتك، أو إلى لحظة دراسية خاصة، أو إلى زاوية هادئة كنت تختبئ فيها عن صخب العالم اذا هل هو سلوك نفسي أم وراثي؟


يشير بعض علماء النفس إلى أن انجذاب الناس لرائحة الكتب يمكن أن يكون سلوكًا مشروطًا؛ أي أننا نربط عن غير وعي بين رائحة الكتب ومشاعر إيجابية عشناها أثناء القراءة، مثل الأمان، التركيز، الإنجاز، أو حتى الهروب من واقع مؤلم إلى خيال أجمل.


أما من الناحية الوراثية، فلا توجد دراسات تثبت أن هناك جينًا مسؤولًا عن حب الكتب أو رائحتها تحديدًا. ومع ذلك، فإن بعض الأشخاص يمتلكون حسًّا شمّيًا عاليًا، يجعلهم أكثر حساسية وتأثرًا بالروائح من غيرهم، وربما هذا ما يفسّر افتتان البعض بعطر الكتب القديمة أو حتى الورق الجديد المطبوع.


لكن بعيدًا عن التفسيرات العلمية والنفسية، يبقى أن حب رائحة الكتب هو عشق خاص، لا يمكن تفسيره بالوراثة أو التكيّف فقط. إنه إحساس يتملك القارئ الحقيقي، ذاك الذي لا يقرأ لمجرد الفهم أو المعرفة، بل من يعيش بين السطور، ويسافر مع الكلمات، ويتفاعل مع الكتاب ككائن حيّ يتنفس ويشعر.


ولكل قارئ علاقة مختلفة مع الورق. هناك من يحب صوت تقليب الصفحات، وهناك من يفضل ملمس الغلاف، وهناك من يرى في رائحة الكتاب دفئًا مفقودًا. هذا العشق للكتب لا يُدرّس في الجامعات، ولا يُشرح في المختبرات، بل يُحسّ، ويُعاش، ويترسخ مع الزمن.


والورق أكثر من مجرد وسيلة، إنه رمز للثبات، والكتاب الورقي لا يمكن تعديله بضغطة زر، ولا يُطفأ عندما تنتهي البطارية، ولا يُغلق عند انقطاع الإنترنت. هو رفيقك الصامت الذي لا يطالبك بشيء سوى أن تقرأه ولعل رائحة الكتاب الورقي، في هذا العالم الإلكتروني المعقّد، هي تذكير بأن هناك أشياء بسيطة لا يُمكن أن تُستبدل، مثل رائحة المطر، أو نكهة الخبز الطازج، أو ضحكة صديق قديم، أو كتاب قرأته حين كنت صغيرًا وشعرت بأنه يهمس لك وحدك حب رائحة الورق ليس حالة نفسية ولا سلوكًا وراثيًا خالصًا، بل هو مزيج من الذكريات، والعاطفة، والتجربة الحسية. إنه جزء من الهوية الثقافية والوجدانية للإنسان القارئ، لا يمكن احتواؤه في تفسير واحد فإن كنت من أولئك الذين يفتحون كتابًا ويغمضون أعينهم ويتنفسون بعمق… فأنت من أبناء الورق، من عشاق الحبر، من الذين لا يقرأون فحسب، بل يعيشون الكتاب بكل حواسهم.


فهل شممت كتابك اليوم؟


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)