-
℃ 11 تركيا
-
6 سبتمبر 2025
د. أميرة فؤاد النحال تكتب: غزة بعد 700 يوم.. نار الإبادة تصهر الضعفاء وتُصلّب إرادة المقاومة
صمود لا يُقهر ومقاومة تتحدى آلة الحرب
د. أميرة فؤاد النحال تكتب: غزة بعد 700 يوم.. نار الإبادة تصهر الضعفاء وتُصلّب إرادة المقاومة
-
6 سبتمبر 2025, 1:35:48 م
-
417
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تعبيرية
يدخل شعبنا الفلسطيني يومه الـ700 تحت حرب الإبادة الأطول في العصر الحديث، حيث تحوّلت غزة إلى مختبر دموي لاختبار حدود الصبر الإنساني، وميدان مكشوف لفضيحة النظام الدولي الذي ارتضى لنفسه دور شاهد الزور، 700 يوم ليست مجرد رقم في عدّاد الزمن، بل هي ميزان للوعي وامتحان للثبات؛ فمن بين الركام ارتفع شعبٌ لا يُكسر، ومن تحت النار خرجت مقاومة تزداد صلابة كلما اشتدت الإبادة.
لقد أراد الاحتلال عبر حرب الاستنزاف المركّبة أن يحوّل غزة إلى منطقة فراغ إنساني ويكسر إرادة المقاومة عبر سياسة التجويع الاستراتيجي والاقتلاع البطيء، لكن النتيجة جاءت معاكسة؛ إذ تحوّلت النار التي كان يُراد لها أن تحرق جذورنا إلى بوتقة صهرت الضعفاء وثبّتت جذور المقاوم، وهكذا أصبحت غزة بعد 700 يوم معادلة سياسية وأخلاقية تتجاوز حدودها الجغرافية: فهي تكشف زيف الشرعية الدولية، وتُعيد تعريف المقاومة كجوهر الوجود الفلسطيني لا كخيار عابر.
منذ اندلاع الحرب على غزة، تحوّلت الجغرافيا الصغيرة إلى مسرح مفتوح لأطول عملية إبادة جماعية في العصر الحديث، 700 يوم متواصلة من القصف والقتل والتهجير الممنهج، أُريد لها أن تُفرغ غزة من سكانها وتحوّلها إلى مجرد أرض بلا حياة، بيوت أُبيدت فوق ساكنيها، أحياء سويت بالأرض، آلاف الشهداء ومئات الآلاف من الجرحى، وملايين على شفا المجاعة بفعل الحصار الكامل؛ ومع ذلك لم يتحقق اليأس الذي راهن عليه الاحتلال، بل تحوّل الألم إلى طاقة صمود نادرة المثال.
هذه الحرب ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل هي عملية اقتلاع بطيء هدفها تمزيق البنية الاجتماعية والنفسية للشعب الفلسطيني، فالقصف لم يترك بيتاً إلا وخلف فيه شهيداً أو جريحاً أو مأساة، والتهجير القسري لم يكن انتقالاً مكانياً عابراً، بل محاولة لمحو هوية الإنسان من جذوره، ومع ذلك فإن غزة لم تُستدرج إلى حالة الانكسار، بل أعادت صياغة معادلة الوجود: أن تكون هنا رغم الحصار، أن تحيا رغم الجوع، أن تواصل الحياة وسط الركام؛ هذا بحد ذاته شكل من أشكال المقاومة اليومية التي تعادل في معناها الاستراتيجي فعل البندقية.
وما يميز التجربة الفلسطينية في هذه الـ700 يوم، أن الصمود تحوّل إلى بنية وعي مقاومة، شعب محاصر بالنار والحديد لكنه يصرّ على أن يظل واقفاً في مواجهة مشروع الإبادة، وجرح غزة مفتوح لكنه لم يتحول إلى عجز أو استسلام، بل إلى ذاكرة نازفة تُغذي معركة التحرير، وتُصدّر للعالم أرقى نماذج التحدي أمام آلة الموت المنظم.
دخل الاحتلال هذه الحرب وهو يراهن على معادلة الإنهاك الطويل، معتقداً أن إطالة زمن الإبادة سيُفضي إلى إنهاك الشعب وتجفيف منابع المقاومة، وصولاً إلى فرض الاستسلام كأمر واقع، غير أنّ 700 يوم من العدوان لم تثمر سوى مأزق استراتيجي مركّب: فالمقاومة لم تُستأصل، والبنية الشعبية لم تنهار، وأدوات الضغط لم تُنتج الانكسار المرجو، بل إن ما كان الاحتلال يتصوره "حرب الحسم النهائي" تحوّل إلى مستنقع استنزاف يلتهم صورته الردعية ويُضعف سرديته العسكرية والسياسية في آن واحد.
لقد أراد الاحتلال أن يفرض على غزة نموذج "الهزيمة الصامتة": يعني لا صوت للسلاح، لا روح للمجتمع، ولا إرادة للصمود، لكن ما حدث على الأرض كان العكس تماماً؛ فالمقاومة أثبتت قدرتها على إعادة التموضع، والحفاظ على فاعليتها العسكرية والسياسية رغم الضربات القاسية، وهنا تكمن المفارقة: فكلما اشتدت الإبادة، أعادت المقاومة إنتاج ذاتها، وأظهرت للعالم أن مشروع الاستسلام الذي يُراد فرضه بالقوة ما هو إلا وهم سياسي يتهاوى مع كل صاروخ ينطلق من غزة ومع كل مقاتل يخرج من تحت الركام ليؤكد أن الردع الحقيقي هو صمود الإرادة لا فائض القوة.
إن مأزق الاحتلال بعد 700 يوم ليس فقط في عجزه عن تحقيق أهدافه العسكرية، بل في افتقاده لأي أفق سياسي يُترجم هذه الحرب إلى مكاسب، فالمقاومة صارت تُراكم الخبرة وتُرسّخ حضورها كمعادل موضوعي للمشروع الصهيوني برمته، وبذلك باتت "إسرائيل" أمام معادلة لم تحسب لها حساباً: زمن الحرب الطويل لم يُنهِ المقاومة، بل جعلها أكثر تجذّراً، وحوّل فشلها العسكري إلى مأزق وجودي يهدد عمق المشروع الاستيطاني نفسه.
لا يمكن قراءة 700 يوم من العدوان إلا باعتبارها ملحمة إبادة ممنهجة تجاوزت حدود الحرب التقليدية لتتحول إلى مشروع قتل بطيء ومركّب، فالحصار الشامل الذي يقطع الغذاء والدواء، وتجويع مئات الآلاف حتى الموت البطيء، وتدمير البنية التحتية من مستشفيات ومساكن ومدارس، كلها ليست أفعالاً عشوائية، بل سياسة ممنهجة لإنتاج مجاعة استراتيجية وإلغاء الحياة المدنية من جذورها، لقد أراد الاحتلال أن يحوّل غزة إلى فضاء غير قابل للعيش، وأن يفرغها من شروط البقاء البيولوجي والإنساني معاً.
لكن الأخطر من الإبادة ذاتها هو الصمت العالمي الذي أحاط بها، العالم الذي ملأ الدنيا شعارات عن القانون الدولي والإنسانية وقف متفرجاً أمام أطول حرب إبادة في العصر الحديث، بل وتواطأ بصمته ليصبح شريكاً في الجريمة، 700 يوم كفيلة بأن تكشف ازدواجية المعايير: حيث تُستدعى القوانين الإنسانية بسرعة البرق في أماكن أخرى، لكنها تُدفن في غزة تحت الركام، لقد تحوّل النظام الدولي إلى شاهد زور مؤسسي يمنح الاحتلال غطاءً لمجازره، ويحوّل الضحية إلى رقم إحصائي بلا هوية ولا أثر.
وعند المقارنة التاريخية، يتضح أن ما يجري في غزة ليس مجرد فصل إضافي من فصول الاستعمار، بل سابقة نوعية في زمن ما بعد القانون، فلم تعرف البشرية في العصر الحديث حرب إبادة امتدت بكل هذا الزمن وبكل هذا الوضوح، دون أن يتحرك العالم لوقفها أو حتى لتسمية الأشياء بأسمائها، من هنا تصبح غزة شاهداً على انهيار المنظومة الأخلاقية الكونية، ودليلاً على أن ما يُسمى النظام الدولي ليس سوى نظام انتقائي يشرعن الإبادة إذا كان الضحية فلسطينياً، ويُحوّل الجريمة الكبرى إلى مشهد اعتيادي يتكرر يومياً أمام كاميرات العالم.
بعد 700 يوم من الإبادة يمكن القول إن المقاومة لم تعد مجرّد خيار عسكري أو رد فعل ظرفي، بل تحوّلت إلى بُنية وجودية تُعرّف الشعب الفلسطيني وتمنحه معناه التاريخي، فالنار التي أراد الاحتلال أن يذيب بها جذور المقاومة، تحولت إلى بوتقة صهرت الضعفاء وثبّتت أصلب العناصر، هنا تكمن المفارقة الكبرى: فكلما امتد زمن العدوان، ازداد وعي الناس بأن المقاومة ليست مجرد أداة لحماية الأرض، بل هي روح جماعية راسخة تتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية وتعيد صياغة معنى الكرامة والحرية.
لقد أراد الاحتلال أن يجرّ المقاومة إلى لحظة الانكسار الاستراتيجي، لكنه اكتشف أن طول الحرب لم يُنهِ عزيمتها، بل عمّقها، فما نراه اليوم ليس مقاومة دفاعية تحاول النجاة من الإبادة، بل مقاومة متجذرة تعيد إنتاج ذاتها كقوة تاريخية عابرة للزمن، ومن تحت الركام يولد جيل جديد يحمل وعياً أشد رسوخاً من الجيل الذي سبقه، جيل يرى في السلاح والوعي معاً امتداداً طبيعياً لحقه في البقاء.
هكذا باتت المقاومة بعد 700 يوم تعبيراً عن الهوية المتجذرة أكثر من كونها خياراً تكتيكياً، فهي اليوم النَص الموازي لحياة الشعب: لا تُختزل في الجبهة العسكرية، بل تتجلى في صمود الأمهات، في عناد الأطفال على مقاعد التعليم المؤقتة، وفي إصرار الناس على الحياة رغم الجوع والحصار، بهذا المعنى لم تعد المقاومة مشروع فصيل أو سلاح، بل روحاً جماعية تصوغ ذاتها من نار الإبادة، وتؤكد أن جذورها ليست قابلة للاقتلاع، بل تزداد صلابة كلما اشتدت محاولات الاقتلاع.
بعد 700 يوم من الإبادة، يبقى جوهر الرسالة أن فلسطين لم تُهزم، وأن غزة لم تُستأصل من وعي الأمة، إنّ ما أراد الاحتلال أن يحوّله إلى زمن انكسار انقلب إلى زمن وعي وصبر، ومن هنا فإن واجبنا كشعب وأمة هو أن نصون هذه الروح الجامعة بالوحدة والثبات، فالمعركة لم تعد معركة جغرافيا محاصرة فحسب، بل معركة هوية وذاكرة ومصير، وكلّ انقسام أو تشتت داخلي هو خدمة مجانية لمشروع الإبادة.
إنّ المقاومة بدمها وسلاحها ووعيها لم تحفظ الأرض فقط، بل حفظت كرامة الأمة بأسرها، لقد أعادت تعريف معنى الكرامة كقيمة وجودية لا كترف سياسي؛ فمن بين الركام خرج المعنى الحقيقي للحرية، ومن تحت النار تكرّس الدرس الأعمق: أن الحق لا يُنتزع بالاستجداء، بل يُصان بالصبر والتضحيات، لذلك فإن دعم المقاومة ليس خياراً سياسياً محدود الأفق، بل واجب أخلاقي وشرعي على كل من ينتمي لهذه الأمة.
إلى شعبي في غزة أقول: لا تفقدوا الأمل، فالأمة الحيّة تُقاس بقدرتها على تحويل الجراح إلى طاقة استمرار، وإلى أمتنا أقول: إنّ غزة لا تقاتل لتحمي ذاتها فقط، بل لتحمي كرامتكم وتذكّركم بأن الحق لا يموت بطول المدة، 700 يوم من النار أثبتت أن جذوة الحرية لا تنطفئ، وأن أمة تحمل مشروع مقاومة قادرة على أن تُعيد رسم خريطتها، مهما طال ليل الاحتلال.
700 يوم من الإبادة لم تكن كفيلة بإنهاء غزة، لكنها كانت كفيلة بفضح العالم، وإسقاط أقنعة الشرعية الدولية، وكشف أن الصراع هنا وجودي لا سياسي، ومن النار خرجت معادلة جديدة: الاحتلال يفقد قدرته على فرض الاستسلام، والمقاومة تتجذر كقدر تاريخي لا يمكن اقتلاعه.
إنها ليست مجرد ملحمة صمود، بل إعادة تعريف للحرية في زمن السقوط الأخلاقي العالمي، فغزة بعد 700 يوم تقول للعالم: قد تُدمَّر البيوت، وقد يُهجَّر الناس، وقد يُستنزف الجسد الفلسطيني، لكن الإرادة أقوى من أن تُكسر، وهذه هي الحقيقة التي يحاول الاحتلال إنكارها، والحقيقة التي ستظل تصوغ المستقبل: نار الإبادة تصهر الضعفاء، لكنها لا تفعل إلا أن تُصلّب إرادة المقاوم.










