-
℃ 11 تركيا
-
12 يونيو 2025
حجاج غزة والسودان واليمن.. قلوب عالقة في الحروب
حجاج غزة والسودان واليمن.. قلوب عالقة في الحروب
-
4 يونيو 2025, 12:38:52 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
متابعة: عمرو المصري
في هذه الأيام المباركة، بينما يتدفق ملايين المسلمين إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج، يحمل كثير من الحجاج في قلوبهم مزيجًا فريدًا من الفرح والمرارة، الروحانية والألم، والأمل والحزن. من بين هؤلاء، برزت قصص حجاج من غزة والسودان واليمن، ممن تمكنوا من الوصول إلى الأراضي المقدسة بعد أن عبروا جغرافيا الموت والحصار والنزوح، تاركين خلفهم ذكريات وبيوتًا محطمة وأحباء تحت القصف أو في مهب الفقر والجوع.
ورغم أن الحج يُفترض أن يكون تتويجًا لمسار روحي طويل، فإن كثيرًا من هؤلاء الحجاج وصلوا إلى مكة بقلوب مثقلة، يحملون على أكتافهم أوجاع شعوبهم، ويؤدون المناسك والدموع تسبق الدعوات، وكأن أرواحهم لا تزال محاصرة في بلادهم المنكوبة.
غزة: حج تحت القصف وقلوب في الأسر
من بين مئات الحجاج الفلسطينيين الذين قدموا من قطاع غزة المنكوب، يبرز اسم المهندس محمد شحادة، البالغ من العمر 38 عامًا، والذي حصل على إذن لمغادرة القطاع فقط لأنه كان يسعى لتلقي علاج من السرطان في مصر. لم يُسمح لعائلته بمرافقته، فخرج وحده من غزة خلال هدنة قصيرة في فبراير، يحمل جسده العليل وآماله المنهكة.
يقول محمد، وقد اغرورقت عيناه بالدموع بينما كان واقفًا على أحد الطرق المؤدية إلى الحرم المكي: "هذا أعظم شعور في الحياة... أن تصل إلى أطهر بقعة، ولكن من دون عائلتك. هذا هو العذاب الحقيقي". زوجته وأطفاله الأربعة ما زالوا تحت القصف في غزة، بينما هو يؤدي مناسك الحج وسط مزيج من الخشوع والقلق والاشتياق.
محمد هو واحد من نحو 500 حاج من غزة تم استقبالهم كضيوف على نفقة الملك السعودي، إضافة إلى نحو 1,350 آخرين قدموا من مصر. ويؤكد أن المشاعر الروحية في مكة لا تكتمل طالما أن قلبه معلق بمن تبقوا في الجحيم. يقول: "يمكنك أن تكون في أفضل مكان في العالم، ولكن إن كنت بعيدًا عن عائلتك، فلن تشعر بالسعادة أبدًا".
السودان: الفرح المشوب بالخطر
من السودان، حيث تدور حرب أهلية ضارية منذ أكثر من عام بين الجيش النظامي وميليشيا الدعم السريع، تمكن آلاف الحجاج من الوصول إلى السعودية عبر البر والبحر. وبينما كانت وسائل التواصل الاجتماعي تزخر بمقاطع لحجاج سودانيين يرقصون فرحًا في مكة، كانت هذه المشاهد تُخفي خلفها معاناة شاقة.
ففي دارفور ومدينة الفاشر، مثلاً، اضطر الحجاج إلى سلوك طرق صحراوية وعرة بعد أن منعتهم ميليشيا الدعم السريع من المرور عبر الطرق المعبدة. عبر هؤلاء الحجاج الصحراء تحت حرارة الصيف القاسية، وبين تهديدات الخطف أو القتل، فقط ليصلوا إلى الحرم المكي.
ومع كل خطوة يخطونها نحو الكعبة، يشعر الحاج السوداني بأن نجاته أشبه بمعجزة. مشاعر الفرح لا تنفصل عن إدراكهم أنهم تركوا وراءهم بلدًا يتفكك، وأسرًا في مخيمات النزوح، وأحياء تحترق تحت القصف، ومع ذلك فإن حضورهم للحج كان إعلانًا رمزيًا عن التشبث بالحياة رغم الدمار.
اليمن: دعوات عابري الحرب
من اليمن أيضًا، البلد الذي عصفت به الحروب والانقسامات، جاء أكثر من 24,000 حاج هذا العام، متجاوزين تعقيدات سياسية وأمنية معقدة، وصعوبات في الحركة والسفر.
من بين هؤلاء، برزت قصة الشيخ ماجد الخضاوي، إمام كفيف من مدينة تعز، والذي عبر عن مشاعره المؤثرة في مقطع مصور لحظة وصوله إلى مكة، ضمن برنامج "ضيوف خادم الحرمين الشريفين". لم تكن الكلمات قادرة على التعبير عن مزيج الدهشة والشكر والتأثر الذي طبع ملامحه.
أما الحجاج الآخرون فقد تنوعت طرق وصولهم: منهم من جاء برًا عبر منفذ الوديعة، ومنهم من وصل جوًا، لكن المشترك بينهم جميعًا هو أن كل رحلة منهم كانت مليئة بالمخاطر والتعقيدات، تبدأ من استخراج التصاريح ولا تنتهي عند التفتيش على الحواجز أو انتظار الرحلات المجهولة.
ورغم تلك الصعوبات، فإن الحجاج اليمنيين أدوا مناسكهم بروح من الشكر والامتنان، وعيونهم تذرف دموع الدعاء لأهاليهم الذين لم يستطيعوا اللحاق بهم، ولسلام طال انتظاره في بلاد تتعرض إلى عدوان أمريكي صهيوني لمجرد انهم تساند قطاع غزة.
كانت المنصات اليمنية قد تفاعلت مع مقطع فيديو لحجاج يمنيين عادوا من مطار صنعاء إلى منازلهم بعد قصف إسرائيل طائرتهم في مطار صنعاء يوم 28 مايو الماضي. وكان من المفترض أن يتم نقل الحجاج برحلة إلى الأراضي المقدسة لأداء مناسك الحج قبل أن يتم قصف الطائرة الوحيدة التي كانت ستقلهم.
أرواح تسبّح بين الحطام
في بهو فندق “النزهة بلس” بمكة، كانت سيدة فلسطينية ستينية تجلس وحدها وتتمتم بالأدعية. نزحت من غزة قبل عام للعلاج، ولم تر أبناءها العشرة منذ ذلك الحين. لم تكن تعرف إن كانوا لا يزالون على قيد الحياة تحت الحصار، لكنها كانت تردد: "أفكر في غزة كل لحظة... بيتي، أولادي، حياتي كلها هناك. أريد فقط أن أعود".
من حولها، كانت ترتفع أصوات الحجاج بالتلبية والتهليل، بينما كانت هي تتأمل وجوههم بدموع حبيسة، وكأنها تبحث فيهم عن وجه من غابوا عنها. لم تكن وحدها؛ فالكثير من الحجاج من المناطق المنكوبة جاءوا بالحروب على أكتافهم، يقلبون في دعواتهم صورًا لأوطانهم الممزقة.
الحج في زمن الحرب: فريضة بدموع الانتظار
رغم ما يحمله الحج من سكينة روحية، إلا أن حجاج غزة والسودان واليمن هذا العام جاءوا محمّلين بأوزار الحروب واللجوء والحصار، وكان حجهم أقرب إلى رحلة شفاء، لكنها شفاء لم يكتمل. فحتى في أقدس البقاع، حيث الطواف والدعاء، فإن الحنين إلى الأهل المفقودين والمخاوف من المصير الغامض طغت على طقوس الفرح.
كانت دعواتهم، في معظمها، دعاءً جماعيًا من أجل السلام: أن تنتهي الحروب، أن يُرفع الحصار، أن يعود اللاجئون، أن تفتح المعابر، وأن تكون فريضة الحج في العام المقبل مزيجًا من العبادة والطمأنينة لا من النجاة والدموع.










