-
℃ 11 تركيا
-
5 سبتمبر 2025
د. صلاح عبدالعاطي يكتب: بين النقد البنّاء والتجاوز على الآخرين.. معركة الوعي والوحدة الوطنية
د. صلاح عبدالعاطي يكتب: بين النقد البنّاء والتجاوز على الآخرين.. معركة الوعي والوحدة الوطنية
-
5 سبتمبر 2025, 11:32:22 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
يعيش شعبنا الفلسطيني واحدة من أخطر لحظاته التاريخية، إذ يتعرض منذ قرابة عامين لحرب إبادة شاملة، وتجويع متعمّد، ومخططات تهجير قسري، وضمّ استعماري ممنهج، تهدف جميعها إلى تصفية القضية الفلسطينية واقتلاع الشعب من أرضه. الاحتلال لا يفرّق في جرائمه بين فتح وحماس والجهاد والجبهات اليسارية أو المستقلين، بل يستهدف الكل الوطني الفلسطيني، لأنه يعتبر الجميع عقبة أمام مشروعه الإحلالي الاستعماري.
لكن، وفي ظل هذا العدوان الشامل، تتجلّى مأساة أخرى لا تقل خطورة: الانقسام الداخلي، وما رافقه من تفشي ثقافة الكراهية والتحريض الحزبي، مدفوعة بعقد الخصومة السياسية أو المصالح الضيقة أو حتى بأجندات خارجية. النتيجة: تبديد الطاقات، إشاعة الفتن، وتحويل الصراع الداخلي إلى أداة مجانية تخدم الاحتلال وتحقق له ما عجزت عنه آلة حربه.
خطورة الانقسام ومخططات الاحتلال
لم يتوقف الاحتلال عند القتل المباشر والتدمير الشامل، بل اعتمد إستراتيجيات خبيثة لتفتيت المجتمع من الداخل. المستهدف ليس فصيلاً بعينه، بل الكل الوطني الفلسطيني. ولتحقيق ذلك، يوظف الاحتلال أدوات متقدمة أبرزها فرقة 8200 – وحدة الحرب السيبرانية والدعاية النفسية – التي تضخ الشائعات، وتضخّم الخلافات، وتبثّ سمومها لإشغال الفلسطينيين بمعارك جانبية فيما يستكمل مشروعه الاستعماري على الأرض.
هكذا، تصبح حملات التخوين، والتشكيك، والذمّ الهدّام، أشد فتكًا من الرصاص، لأنها تهدم وحدة الصف وتُفقد المجتمع مناعته الداخلية.
التسامح والسلم الأهلي
أي مشروع وطني لا يمكن أن يقوم إلا على التسامح وصيانة السلم الأهلي. فالاختلاف في الرأي ظاهرة صحية، لكن تحويله إلى أداة للسب والقذف والتخوين يُدمّر القيم ويُضعف القدرة على مواجهة الاحتلال. ومن هنا، فإن المثقفين والإعلام يتحملون مسؤولية مضاعفة في حماية النسيج الاجتماعي وإعلاء قيم الحرية والاحترام والاختلاف المسؤول.
إن أخطر ما نواجهه اليوم هو استسهال البعض الشتم والتحريض وأخذ القانون باليد وتبرير الفوضى، وهو ما يفتح الباب أمام انهيار القيم والاقتتال الداخلي. هذه الممارسات لا تضر الأفراد فحسب، بل تهدد السلم الأهلي برمته، عدا عن كونها ممارسات محرمة ومجرّمة قانونًا، ومرفوضة وطنيًا.
بين النقد البنّاء والذم الهدّام
النقد حق وضرورة وواجب وطني، لكن حين يكون بنّاءً فإنه يفتح أبواب الإصلاح ويقترح البدائل ويعزز الوحدة. أما حين يتحول إلى ذم وتخوين، فإنه يغلق مسارات الإصلاح ويعمّق الانقسام، ويصبّ مباشرة في خدمة الاحتلال.
التجاوز المجرم: خطر اجتماعي
اليوم، يسقط كثيرون في فخ "القبائل المتنافسة": كل طرف يرى نفسه صاحب الحق المطلق، بينما يُجرّد الآخر من أي صواب. وهكذا تُستباح الكرامات وتُفقد البوصلة، وينشغل المجتمع في صراع داخلي، بينما يستفرد الاحتلال بنا جميعًا. لذا يعد التجاوز المجرم على الآخرين أحد أشد أشكال الانحدار القيمي والإنساني. فهذا السلوك لا يُظهر شجاعة ولا يحقق شهرة حقيقية، بل يهدم قيم الاحترام ويزرع الانقسام ويؤدي إلى ردود فعل مضادة تزيد التوتر كما انه يُعد تهديدًا مباشرًا للسلم الأهلي والتماسك الوطني والاجتماعي.
لذا فإن احترام الآخرين مهما كانت درجة الخلاف ليس خيارًا، بل واجبًا أخلاقيًا ودينيًا واجتماعيًا وقانونيًا يحفظ الأمن المجتمعي ويعزز مناخ التسامح والسلم الأهلي.
المعركة الحقيقية
المعركة الحقيقية التي يخوضها شعبنا ليست معركة نفوذ داخلي أو صراعات حزبية، بل معركة بقاء وحرية في مواجهة الإبادة والتجويع والتهجير والضمّ الاستعماري. الاحتلال يريد أن نُهزم من الداخل قبل أن يُهزم على الأرض. ومن هنا فإن الأولوية الوطنية اليوم هي: وقف الإبادة الجماعية، فضح الجرائم الإسرائيلية، حشد الطاقات لمواجهتها، وتوحيد الصفوف بدل استنزافها في معارك وهمية، ولعل التركيز يجب ان ينصب علي وقف الابادة والمجاعة وتعزيز الوحدة الوطنية والاتفاق على خطة لمواجهة المخاطر بقيادة موحدة على قاعدة الشراكة والتمثيل الشامل. وهذا يتطلب ضبط الخطاب الإعلامي، وقف حملات الكراهية، والتمييز بين النقد البنّاء والذمّ الهدّام، والتحريض ونشر ثقافة الكراهية ، إضافة إلى الانتباه ومواجهة الحرب السيبرانية للاحتلال، ونشر الوعي بخطورة الشائعات، وتطوير أدوات دفاع رقمية وطنية، والعمل علي نشر ثقافة التسامح، احترام الحريات، وتجريم ثقافة السبّ والتحريض والفوضى.
وعلي النشطاء الوطنيبن والفاعلين والمثقفين وكل المعنيبن توجيه البوصلة نحو التناقض الرئيسي مع الاحتلال، فالنار في المنزل ويجب ان نعمل جمعيا على اطفاء الحريق، بجعل مواجهة الإبادة، والتهجير، والتجويع، وجرائم المستوطنين، والاعتداءات على المقدسات، أولوية قصوى في الإعلام والسياسة والعمل الوطني وعلي كافة المستويات. بما في ذلك إعلاء المشترك الوطني والعربي والانساني، والتأكيد أن الاحتلال يستهدف الكل الفلسطيني والعربي والإنسانية، ويشكّل خطرًا استراتيجيًا على الأمن القومي العربي والدولي ما يحتم تعزيز الدعم والتكامل العربي ومع أحرار العالم.
ختامًا،إن لم توحدنا هذه المحنة والمخاطر الوجودية التي يعيشها شعبنا، فمتى سنتوحد؟ إن معركتنا ليست مع بعضنا، بل مع الاحتلال الذي يسعى ابادة شعبنا ولتصفية قضيتنا. وإن تحويل خلافاتنا إلى اقتتال داخلي يعني أننا ننجز مهمة الاحتلال مجانًا.
المطلوب اليوم أن نرتقي بخطابنا وسلوكنا من مربع الكراهية إلى ساحة الوحدة، ومن الذمّ والتحريض إلى النقد البنّاء، لأن ما يخدم الوطن لا يخدم الاحتلال، وما يخدم الاحتلال لا يخدم الوطن.
الوحدة ليست خيارًا سياسيًا عابرًا، بل شرط وجود وبقاء وانتصار.






