-
℃ 11 تركيا
-
2 أغسطس 2025
د. أميرة فؤاد النحال تكتب: من الظل إلى الخلود: محمد الضيف وعقيدة الإنهاك المتواصل
الضيف في الذاكرة: من شبح الاغتيال إلى مهندس عقيدة الإنهاك الفلسطيني
د. أميرة فؤاد النحال تكتب: من الظل إلى الخلود: محمد الضيف وعقيدة الإنهاك المتواصل
-
16 يوليو 2025, 3:15:19 م
-
447
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
محمد الضيف
في الذكرى الأولى لرحيله، لا يُمكن اختزال محمد الضيف في صورة قائد عسكري بارع أو شبح أفلت من محاولات الاغتيال، بل يجب قراءته كـمعمارٍ استراتيجي لعقيدة الإنهاك الفلسطيني، وكاتب صامت لواحدة من أعقد صفحات التحرير في العصر الحديث، الضيف لم يكن مجرّد قائد ميداني، بل عقل مقاوم أعاد تعريف الزمن العسكري الفلسطيني، وكرّس نهج الاشتباك الطويل كبديل عن الصدمة والانكسار.
من بين الظلال التي نسجها حول نفسه لعقود، خرج الضيف ليصنع نموذجاً يُراكم الكرامة، ويبني الردع بالحفر وبالصمت لا بالاستعراض، هو القائد الذي حوّل التخفّي إلى تكتيك دائم، والغُموض إلى رأس مال معنوي، وأعاد الاعتبار لفكرة المجاهد المفكّر.
في عصر كثُر فيه المفاوضون، كان الضيف منارة الميدان، حيث لا يخطّ رسالة إلا بنار، ولا يعلن موقفاً إلا على وقع الشواظ، تبنّى عقيدة الإنهاك المتواصل كخيار استراتيجي لا يخضع لإيقاع السياسة، بل يُملي عليها إيقاعه، قاوم بفكرة النفس الطويل لا بالضربة القاضية، رافعاً شعاراً لم يُعلنه لكنه طبّقه:
لن نهزمهم في جولة، لكنهم سيسقطون حتمًا في معركة الصبر، فلقد صنع من غياب الصورة حضوراً دائماً في الوجدان الفلسطيني، وجعل من المقاومة مشروعاً معرفياً وأخلاقياً لا فقط عسكرياً، ومن كل محاولة اغتيال جديدة برهاناً على فشل الاحتلال.
وُلد محمد دياب إبراهيم المصري المُلقب بـ "محمد الضيف" في خانيونس عام 1965، في مخيم لا يورث أبناءه سوى وعي النكبة، وحق العودة، وفنّ الصبر المسلّح، تربّى في كنف إنتفاضةٍ وغضبٍ لا يتوقف، وبيئة مشبعة بثقافة المقاومة، وبدأ نشاطه في صفوف الكتلة الإسلامية، لكنه لم يلبث أن التحق بالميدان، وأسس سريعاً نهجاً خاصاً به: الظل الموجّه، حيث القائد لا يظهر، لكنه يرسم خطوط القتال.
منذ أوائل التسعينيات، برز الضيف كصاحب عقلية عملياتية متقدمة، لكنه لم يكن فقط منفّذاً، بل مهندساً لعقيدة الإنهاك المستمر، التي تقوم على استنزاف العدو عبر جولات مدروسة، تراكم الردع، وتبني نموذج الصبر الطويل لا الحسم السريع.
نجا الضيف من سبع محاولات اغتيال، فقد فيها عينه وزوجته وأطفاله، لكنه لم يفقد البوصلة، بل تحوّل جسده المُثقل بالجراح إلى وثيقة حية على فشل آلة القتل الصهيونية، كان يرفض التصوير أو الحضور العلني، مؤمناً بأن القيادة لا تحتاج كاريزما الصوت، بل وضوح الهدف.
في كل جولة، كانت بصمته حاضرة: من تفجير الحافلات في التسعينات، إلى إدارة المواجهات في "العصف المأكول" 2014 و"سيف القدس" 2021 و"طوفان الأقصى" 2023، لقد كان مؤسساً لمدرسة الردّ المؤجل، والكمائن المؤثّثة بالصمت والدهاء، كان محمد الضيف صيغة مقاومة لا تُغتال، لأنه اختار أن يكون مبدأً لا صورة، وعقيدة لا مقاماً، وصوتاً من تحت الركام، لا صدىً في المهرجانات.
لم يكن غياب محمد الضيف عن الإعلام فراغاً في القيادة، بل كان ركيزةً في عقيدته القتالية، فمنذ اللحظة الأولى اختار الضيف أن يكون المهندس غير المرئي، يقود ولا يظهر، يُخطط دون ضجيج، ويُراكم الأثر بعيداً عن كاميرات الدعاية، فالظل لم يكن انسحاباً، بل تحصيناً للمشروع المقاوم.
كان الضيف يرفض الظهور لأنه كان يرى أن أفعال القادة هي ما يجب أن تبقى في الميدان، وبهذا الفهم نشأت مدرسة الظل داخل القسام: قيادة متخفية، لا تركن إلى الظهور، وتعتبر الغموض العملياتي جدار صد أمنيّ واستراتيجيّ، يمنع الاحتلال من تتبع البنية القيادية، ويمنح الميدان استقلالية مرنة في التنفيذ.
وعلى مدار ثلاثة عقود، أصبح هذا النمط من القيادة سمةً عامةً للقسام، بحيث اختفت الوجوه، وبقيت الأفعال، وهو ما جعل جهاز الأمن الصهيوني يعترف أكثر من مرة بفشله في تفكيك شبكة الضيف، رغم تفوقه التقني، وهكذا تحوّل الضيف إلى بنية قيادية غير قابلة للرصد، تمارس الفعل المقاوم دون الحاجة إلى تأكيده، فالصمت عنده ليس حياداً، بل إعلاناً مؤجَّلاً عن صدمة قادمة، والظل ليس تراجعاً، بل هندسة خفية لميزان الردع.
لم يكن محمد الضيف يرى في أي مواجهة حاجةً إلى إعلان نصر؛ بل كان يركز على إرهاق العدو، وتراكم فرص الردع، وطمر وهم التفوق هذا هو جوهر ما أسميه "الردع التراكمي": استراتيجية تستهدف ليس انهيار العدو في جولة محددة، بل إضعاف قدرته النفسية واللوجستية عبر الزمن.
في حروب "العصف المأكول" 2014 و "سيف القدس" 2021 و"طوفان الأقصى" 2023، طبقت كتائب القسام هذا النهج بوضوح:
- في 2014، وقع الاحتلال في فخ الاشتباك الطويل، حين لم تُخَيِّر المقاومة بين تشكيل معركة متزامنة أو فرض تهدئة.
- في 2021، وبالرغم من تفاوت القوة، اختارت المقاومة أن تبثّ الرعب داخل المدن المحتلة بليالي من الصواريخ ذي النطاق الميداني المحدود، لتعطيل حسابات الرد الصهيوني المحدود.
- في 2023، وسط ما أطلقت عليه الكتائب "طوفان الأقصى"، لم تسعى القسام للعب دور ضحية، بل صنعت عملية إنهاك ثانية عبر ضربات متكررة تجرّدت من الطابع الرمزي، وفرضت واقعية الاشتباك.
هذه التصرفات لم تكن فقط كسر صورة جيش قوي، بل هندسة عرف لقدرة المقاومة على إعادة تعريف الحرب نفسها: المحددات لم تعد في السيطرة الميدانية فقط، بل في القدرة على التلاعب بجدول أعمال العدو وسط العواصم والمنابر، وبذلك أنشأ محمد الضيف أفقاً جديداً للمواجهة، لا يُقدّر بساعات قصف أو خسائر عسكرية، بل بطرق الردع المستمرة التي تُغيّر قواعد الاشتباك وتُفكك استراتيجية العدو من الداخل.
كانت المقاومة عند الضيف خياراً دائماً قبل أن تكون تكتيكاً وقت الحاجة، وهنا تظهر عقيدته: فعل لا وظيفة سياسية، بمعنى أن المقاومة ليست وسيلة لحكم، بل هي إعادة وجود شعب تحت القهر الاستيطاني، ومن مواقفه العملية: رفض أي حديث عن حلول وسطى أو مرونة سياسية طالما استمر الاحتلال في ارتكاب المجازر، كما كان يصرّ على أن السلاح والتفاوض وجهان لنفس العملة: فالردع لا يمكن فصله عن التفاوض، وإذا وُضع السلاح جانباً فإن التفاوض يصبح بلا عمق أو قدرة على كسر إرادة الاحتلال، وبذلك ركّز الضيف على أن المقاومة ليست وظيفة سياسية مؤقتة، بل خيارٌ دائم يضمن السيادة والكرامة، ولذلك رفض الاختزال: لا منهج تفاوضي بدون ضغط، ولا مقاومة بلا قابليّة للتكيف مع الحالة السياسية، وهكذا نجحت عقيدة وحدة الفعل والبوصلة في نقل كتائب القسام من الصيغ الرمزية إلى صيغ التأسيس الاستراتيجي: مقاومة تحيك واقعها، وتفرض إرادتها قبل كل اتفاق.
لا يُقاس أثر محمد الضيف بموقعه في خريطة القيادة، بل بامتداده في هندسة الوعي المقاوم، اغتياله لا يطوي صفحة، بل يكشف أن العدو لا يواجه شخصاً بل يطارد عقيدة تأبى الزوال، كل من عرفه، من القادة المقربين وحتى الأسرى الذين سمِعوا باسمه قبل أن يعرفوا صورته، يروون رواية واحدة: أن الضيف كان يعيد تصميم الميدان كما يعيد ترميم الروح المقاومة كل مرة.
كتائب القسام اليوم لا تبكي القائد، بل تحمل إرثه كوحدة قتال واستراتيجية بناء، فلسفته في القيادة لم تكن فوقية؛ فهو لم يرَ نفسه رمزاً، بل مجرّد جندي، ولهذا لم يُصمم الضيف مقاومةً مرتبطة باسمه، بل مدرسة قابلة للتجدد، ترتكز على ثلاثية: المرونة العملياتية، الإنهاك المتراكم، والاستقلالية الكاملة عن التوظيف السياسي.
واستشهاده يشكّل اختباراً للأجيال القادمة: هل يستمرون في الكفاح بوصفه واجباً أخلاقياً لا مهمة تنظيمية؟ هل يبنون على ما أرساه من فهم: أن الكفاح المسلح ليس حالة طارئة بل نهجاً يتغذى من ذاكرة الشهداء، ويتكئ على وعيٍ لا يُؤجر ولا يُباع؟ الإجابة فعلاً بدأت بالظهور في اليوم التالي لاستشهاده، حين ردت القسام على جبهات عدة، وكأنها تقول: اغتلتم رجلاً لكن المدرسة باقية، والميدان حيّ، والقرار لا يُكتب بالحبر الصهيوني بل بتوقيع النار من غزة.
اغتيال محمد الضيف بكل ما حمل من ضجيج استخباري ودعائي، لم يُنهِ المعركة، فالضيف لم يكن قائداً يُستبدل، بل بنية مقاومة متجذرة في الشعب والشارع والوعي، واغتياله هو محاولة لإسكات مدرسة، لا مجرد تصفية لرجل.
ما تركه ليس مسيرةً فقط، بل عقيدة إنهاك متواصلة، لا تسعى لحسم سريع، بل تؤمن بأن إرباك المحتل وإجهاض يقينه وتفكيك سرديته هو الانتصار العميق، وأن المقاومة ليست موسمية، بل مسؤولية مستمرة لا تقبل التحوير السياسي ولا التعليب الإعلامي.
وهكذا، سيبقى اسم الضيف محفوراً في تكتيكات الردع، وثقافة الرفض، ووعي الجيل الذي تعلّم من غيابه كيف تُصنع الهيبة.. من الظل وإلى الخلود.









