مراكز الموت: تحقيق يكشف جرائم القتل داخل نقاط توزيع المساعدات الأمريكية – الإسرائيلية

profile
  • clock 26 يوليو 2025, 12:01:00 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

متابعة: عمرو المصري

يكشف هذا التحقيق الإنساني الشامل – من إعداد الباحثة القانونية لبنى ديب لصالح الهيئة الدولية "حشد" – واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة تحت ستار العمل الإنساني في قطاع غزة. وعلى مدى أكثر من شهرين من تشغيل ما يُسمى بـ"مراكز توزيع المساعدات" التابعة لمؤسسة غزة الخيرية (GHF)، يتضح أن هذه النقاط تحوّلت إلى ساحات قتل ممنهج للجوعى، تُمارس فيها إعدامات ميدانية، وتُستخدم فيها أدوات عسكرية، ويُفرض على المدنيين نظام استخباراتي صارم، يفتقر لأي ضمانات حماية إنسانية.

ولادة مؤسسة مشبوهة

تبدأ القصة في فبراير 2025، حين أعلنت مؤسسة جديدة تُدعى "مؤسسة غزة الخيرية" (GHF) عن انطلاقها من مدينة جنيف تحت لافتة إنسانية، بدعم مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية، في خضم المجاعة التي تضرب غزة بفعل الحصار والتجويع المنهجي. لم تمر أيام قليلة حتى بدأت المؤسسة تفتتح مراكز توزيع للمساعدات في مناطق متفرقة من القطاع، بدءًا من رفح، ثم نيتساريم، فزيكيم، وشاكوش.

لكن خلف الأسماء الوردية والادعاءات الإنسانية، كانت هناك شواهد متزايدة على دور عسكري وأمني صريح تقوم به هذه المؤسسة، مع تجاهل متعمّد لكل النداءات الرافضة لطبيعة عملها. أكثر من 172 منظمة أممية ودولية، من بينها الصليب الأحمر ومنظمة أطباء بلا حدود، رفضت التعاون مع المؤسسة، لكن عملياتها توسعت بدعم سياسي وميداني مباشر من واشنطن وتل أبيب، وعلى أنقاض وكالة الأونروا التي تم تفكيك بنيتها الإغاثية لصالح هذا المشروع البديل.

عسكرة نقاط التوزيع

سرعان ما بدأت تظهر معالم عسكرة واضحة لعمليات التوزيع التي تقودها المؤسسة الجديدة. إذ تُظهر الشهادات والوثائق أن إدارتها الميدانية كانت تُدار من قبل ضباط سابقين في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، مثل فيليب رايلي، بمشاركة شركات أمنية خاصة مثل G4S وSOC، وهي شركات لها سجل حافل في العمل الأمني بأماكن النزاع.

وفيما كان يُفترض أن تكون تلك المراكز ملاذًا للمدنيين الجوعى، تحولت إلى ثكنات عسكرية حقيقية، مزودة بأجهزة بصمة بيومترية، ونظام تعرّف على الوجوه، وكاميرات مراقبة، وأبراج قنص، ونقاط تفتيش عنيفة، بل إن بعض الشهادات أشارت إلى استخدام الطائرات المسيّرة الصغيرة (درونز) لمراقبة وتصوير الفلسطينيين أثناء اصطفافهم في طوابير المساعدات، وأحيانًا لإلقاء الشتائم عليهم بمكبرات صوت.

من يسيطر على الخبز؟

عبر هذه المنظومة المحكمة، لم تكن المساعدات تصل إلى المدنيين بطريقة عادلة أو إنسانية، بل تحولت إلى أدوات ابتزاز. إذ تشير التحقيقات إلى أن المخابرات الإسرائيلية كانت تشترط على الشباب الفلسطينيين تقديم بصمات بيومترية والتعهد بعدم الانخراط في أي نشاط مقاوم، مقابل السماح لهم بتلقي الطحين أو وجبات الغذاء. أما من تخلّف عن تقديم "الضمانات الأمنية"، فكان يتم منعه، بل وربما قنصه من قبل عناصر الحماية أو الجنود الإسرائيليين المحيطين بمواقع التوزيع.

تحوّلت نقاط توزيع المساعدات إلى ما يشبه "شباك تجنيد" أو "كمائن للذل"، وأصبحت أدوات التحكم بالخبز والدواء هي ذاتها أدوات التحكم بالحياة والموت، وسط صمت دولي مريب. ويخلص التحقيق إلى أن إسرائيل نجحت في تحويل الغذاء إلى وسيلة سيطرة واستخبارات وتطويع، مستغلة الوضع الإنساني الكارثي الذي صنعته بيدها.

مجازر داخل الطوابير

من بين أبشع ما كشفه التحقيق، المجازر المتكررة التي وقعت داخل مراكز التوزيع أو في الطرق المؤدية إليها. إذ سُجل استشهاد أكثر من 600 مدني فلسطيني، من بينهم عشرات النساء والأطفال، نتيجة إطلاق النار العشوائي أو المتعمد عليهم أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات، بحسب الجداول التي أرفقها التقرير.

وقد وثق التقرير شهادات من طواقم طبية تعمل في مستشفى ناصر، أكدت أن الإصابات التي كانت تصلهم من محيط نقاط التوزيع ليست إصابات طائشة، بل طلقات في مناطق قاتلة من الجسد، مثل الصدر والرأس، مما يؤكد نية القتل. كما سُجلت حالات بتر كثيرة، معظمها ناتجة عن استخدام قنابل صوتية، أو طلقات متفجرة.

هندسة التجويع

يكشف التحقيق أن الهندسة المكانية لمراكز التوزيع ليست عشوائية، بل تم التخطيط لها بما يخدم سياسة التهجير القسري. فقد تم تحديد مواقع هذه المراكز في مناطق نائية من جنوب القطاع، وأجبر السكان في المخيمات الوسطى والشمالية على قطع مسافات طويلة، عبر طرق مكشوفة وخطيرة، من أجل الحصول على القليل من الطعام. وبينما كان يمكن إدخال المساعدات عبر معبر كرم أبو سالم إلى نقاط قريبة، تعمّدت السلطات الإسرائيلية منع ذلك، بهدف دفع السكان إلى النزوح قسرًا نحو الجنوب أو الحدود المصرية.

هذه السياسة، وفقًا للتحقيق، تُمثل جريمة تهجير قسري بموجب القانون الدولي، لا تقل خطورة عن القتل المباشر أو الإبادة الجماعية بالتجويع، إذ تُستخدم فيها المساعدات كوسيلة ضغط مركزي على الحركة السكانية، وليس كأداة إغاثة.

شهادات موجعة

يحتوي التحقيق على عشرات الشهادات الحيّة لمواطنين نجوا من كمائن التوزيع، أو فَقَدوا ذويهم في أثناء المحاولة. إحدى الأمهات تقول: "ابني راح يجيب طحين... رجع على كتف الناس، مقتول!". وشاب آخر يقول: "مش أنا اللي اخترعت الجوع... هم اللي صنعوه، وأنا مضطر أواجه الموت عشان أكمل يومي".

تتكرر في الشهادات مفردات الذل، والشتائم، والانكسار، والخذلان، وتشير جميعها إلى أن "الطعام لم يُقدّم كحقّ إنساني، بل كصفعة على الكرامة"، بحسب ما ورد في تعليق إحدى الناجيات.

توصيات قانونية

ينتهي التحقيق بتوجيه سلسلة من التوصيات إلى المحكمة الجنائية الدولية، والأمم المتحدة، والمجتمع المدني الدولي، يدعو فيها إلى:

فتح تحقيق جنائي رسمي في جرائم القتل داخل مراكز التوزيع.

حظر عمل "GHF" داخل الأراضي الفلسطينية.

إعادة الاعتبار لوكالة الأونروا كجهة وحيدة مخولة بالإغاثة.

تقديم الأدلة المصورة وشهادات الضحايا كجزء من ملف الإبادة الجماعية الذي تنظر فيه المحكمة.

ويشدّد التحقيق على أن "الخبز في غزة بات يُوزَّع بالرصاص"، وأن "أخطر ما في الحرب ليس المجزرة العلنية، بل القتل البطيء باسم الإنسانية".

التعليقات (0)