-
℃ 11 تركيا
-
12 يونيو 2025
قافلة الموت في دارفور: من يقصف المساعدات الإنسانية في السودان؟
قافلة الموت في دارفور: من يقصف المساعدات الإنسانية في السودان؟
-
4 يونيو 2025, 2:36:12 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
متابعة: عمرو المصري
في واحدة من أكثر الهجمات دموية واستفزازًا منذ بدء الحرب السودانية في أبريل 2023، تعرضت قافلة مساعدات إنسانية تابعة للأمم المتحدة، مساء الاثنين، لهجوم دموي في منطقة "الكومة" بولاية شمال دارفور، ما أدى إلى مقتل خمسة من طواقم الإغاثة وإصابة آخرين، وتدمير عدد من شاحنات الغذاء المخصصة لمئات العائلات المحاصرة في مدينة الفاشر. وبينما كانت القافلة تستعد للانطلاق نحو الفاشر، إحدى أكثر المدن تضررًا من النزاع والمجاعة، تحولت مهمتها إلى كارثة إنسانية جديدة، وسط تبادل مرير للاتهامات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
وبينما اكتفت المنظمات الدولية بالإدانة والمطالبة بالتحقيق، كان وقع الهجوم كارثيًا على الأرض: أرواح أزهقت، مساعدات احترقت، وجوعى تُركوا دون أمل. ومع هذا التصعيد، لم تعد الحرب السودانية تفتك بالأبرياء فقط، بل بدأت تفتك باليد التي تمتد لإنقاذهم.
تبادل الاتهامات.. وتحميل الضحايا العبء
في الوقت الذي حملت فيه وزارة الخارجية السودانية قوات الدعم السريع مسؤولية الهجوم، مؤكدة استخدام طائرات مسيّرة لضرب القافلة الأممية، سارعت الوكالة السودانية للإغاثة والعمليات الإنسانية، التابعة للدعم السريع، إلى اتهام الجيش السوداني بشن الغارة من خلال طائرة حربية.
هذا التبادل المألوف في الاتهامات يعكس نمطًا مأساويًا في المشهد السوداني: كل طرف يطالب المجتمع الدولي بالتنديد، بينما يسقط المزيد من الضحايا، ويُضاف المزيد من الانهيار إلى ما تبقى من البنية الإنسانية الهشة. لكن الهجوم هذه المرة ليس عابرًا، فالمستهدف ليس طرفًا عسكريًا، بل شاحنات محملة بالدواء والغذاء، في طريقها لمنع الموت جوعًا.
اللافت في البيان الأممي أن مسار القافلة كان معروفًا ومتفقًا عليه مسبقًا مع جميع الأطراف، ما يجعل هذا الهجوم – بصرف النظر عن المنفّذ – انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، وللقواعد الأخلاقية التي تمنع استهداف العمل الإغاثي حتى في ذروة الحروب.
الفاشر المحاصرة: مدينة تتنفس عبر قوافل الموت
الهجوم على القافلة يكتسب بعدًا أكثر مأساوية لأنه استهدف مدينة الفاشر، التي تعاني من حصار خانق تفرضه قوات الدعم السريع منذ أكثر من عام. المدينة الواقعة في شمال دارفور أصبحت رمزًا للجوع والموت البطيء، حيث تفيد تقارير الأمم المتحدة بوجود مئات الآلاف من السكان الذين يواجهون خطر المجاعة، وسط نقص حاد في الغذاء والدواء.
قافلة يوم الاثنين كانت واحدة من محاولات نادرة لإدخال المساعدات إلى المدينة. ومع تدميرها، أصبح واضحًا أن منطق الحرب يطغى على كل ما هو إنساني، وأن الأطراف المتحاربة – أيًّا كانت الجهة التي نفذت الهجوم – باتت تعتبر القوافل الإنسانية جزءًا من معركة السيطرة، لا وسيلة لإنقاذ المدنيين.
المنظمات الدولية، وعلى رأسها اليونيسف وبرنامج الأغذية العالمي، دانت الهجوم بشدة، وذكرت أن القافلة كانت تضم 15 شاحنة محملة بمواد غذائية وتغذوية منقذة للحياة. لكن الأهم هو أن الهجوم لم يقع بالصدفة، بل أثناء توقف القافلة في "الكومة" بانتظار التصاريح – ما يعني أن استهدافها تم بعد مراقبة وتخطيط.
الصراع السياسي من منظور إنساني: تجويع متعمد ومعاقبة جماعية
منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، اتخذ النزاع طابعًا عقابيًا ضد المدنيين. ومع مرور الوقت، تراجع الطابع العسكري المباشر للقتال، ليحل محله التجويع، الحصار، التهجير القسري، والنهب كأساليب لإخضاع المجتمعات المحلية وربما لإعادة رسم الخرائط السكانية في دارفور.
قصف القوافل الإنسانية ليس مجرد حادث، بل هو تكتيك للحرب: منع الغذاء عن مناطق تسيطر عليها جهة معينة، أو معاقبة السكان المتهمين بالتعاطف مع العدو. ووفق منظمات أممية، فإن نحو 4 ملايين سوداني فروا إلى خارج البلاد، بينما نزح ملايين داخل السودان، خصوصًا في دارفور وولاية الخرطوم. الحرب لم تقتل فقط، بل هجّرت وأفقرت ومزّقت النسيج الاجتماعي.
وفي هذا السياق، يصبح الهجوم على قافلة "الفاشر" مثالًا حيًّا على إفلاس سياسي مزدوج: طرفان يقصفان شريان النجاة، ويتبادلان التهم بلا مساءلة، بينما يموت الناس بصمت.
المنظمات الإنسانية بين القصف والصمت الدولي
أصدرت المنظمة الدولية للهجرة بيانًا نادر اللهجة، أدانت فيه الهجوم بوصفه "اعتداء على العاملين الإنسانيين"، محذرة من أن مثل هذه الهجمات تؤدي إلى "خسارة في الأرواح، وتعطيل لعمل الإغاثة، وتهديد مباشر لحياة الملايين". كما دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى "تحقيق عاجل" ومحاسبة الجناة، لكن دون أن يسميهم.
لكن هذه الإدانات تبدو عاجزة أمام واقع ميداني متوحش، لا يعترف بقواعد القانون الدولي، ولا يردع المتورطين في استهداف الطواقم الإنسانية. ما لم يكن هناك موقف دولي حازم – سياسيًا وقانونيًا – فإن هذا النوع من الهجمات سيستمر، وقد يتحول إلى قاعدة، لا استثناء.
وإذا استمرت الأمم المتحدة ومنظماتها في العمل ضمن خطوط "التنسيق مع الطرفين"، دون مساءلة واضحة، فإن أرواح العاملين في المجال الإنساني ستبقى رهينة قرارات ميدانية يتخذها ضباط مجهولون، أو طائرات دون طيار.
إلى أين تتجه دارفور؟ مأساة بلا نهاية قريبة
ما حدث في "قافلة الفاشر" لا يجب أن يُفهم كحادث منفصل، بل كجزء من مسلسل متصاعد من استهداف البنية المدنية والإغاثية في دارفور. تشير الوقائع إلى أن المنطقة باتت ساحة حرب شاملة، لم تعد تفرق بين المدني والمقاتل، بين الطبيب والجندي، بين الطفل والحاجز العسكري.
وفي ظل عجز الوساطات الإقليمية وتراجع الاهتمام الدولي، باتت دارفور تواجه خطر إبادة صامتة، عبر الجوع والحصار والترويع. وإذا استمر هذا النمط من الهجمات، فإن مئات الآلاف معرضون لخطر المجاعة الفعلية، لا الافتراضية.
إن غياب آلية دولية لحماية العاملين في المجال الإنساني، واستمرار الحرب بلا سقف تفاوضي جدي، ينذران بأن المرحلة المقبلة في السودان ستكون أكثر دموية، لا سيما في المناطق التي يختلط فيها المكوّن الإثني بالبعد السياسي والتاريخي، مثل الفاشر ونيالا وزالنجي.
من يحاسب على الدماء؟
في نهاية المطاف، يبقى سؤال جوهري مطروحًا: من يقصف المساعدات الإنسانية في السودان؟ ولماذا لم يُحاسب أي طرف على الهجمات السابقة؟ وأين يقف المجتمع الدولي من هذا الانهيار الأخلاقي المستمر؟
بينما يتواصل نزيف الدم، وتزداد المعاناة، لن تُجدي الإدانات وحدها، ما لم تتحول إلى مواقف سياسية ملزمة، تقود إلى وقف إطلاق نار إنساني، وفتح ممرات آمنة للإغاثة، ومحاكمة كل من يتورط في استهداف المدنيين أو العاملين في المجال الإنساني.
دارفور لم تعد فقط رمزًا للمأساة، بل مرآة للعجز العالمي. وقوافل الموت – بدلًا من الحياة – باتت العنوان اليومي لحربٍ لا تشبع من الدماء.









