-
℃ 11 تركيا
-
20 يونيو 2025
شنغهاي تحتفي بالسينما العالمية وتمنح هامشًا متقدّمًا للأفلام من مناطق النزاع
حضور عربي محدود وأصداء فلسطينية وصومالية وإنسانية
شنغهاي تحتفي بالسينما العالمية وتمنح هامشًا متقدّمًا للأفلام من مناطق النزاع
-
20 يونيو 2025, 1:17:24 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
من افتتاح مهرجان شنغهاي الدولي
رغم أنه لا يحظى بالشهرة الإعلامية الطاغية التي تميز مهرجانات كبرى مثل "كان" أو "برلين"، فإن مهرجان شنغهاي السينمائي الدولي بات يمثّل واحدة من أكثر الفعاليات السينمائية حيويةً وتأثيراً في آسيا والعالم، ليس فقط من حيث عدد الأفلام أو حجم التظاهرة، بل لقدرته على تحويل المدينة الصينية العملاقة إلى مساحة نابضة بالحياة السينمائية طوال فترة إقامته.
فالمدينة التي يقطنها أكثر من 30 مليون نسمة، وتستقطب عشرات الآلاف من محبي السينما سنويًا، تتحول خلال أيام المهرجان إلى شاشة عرض مفتوحة، تمتد من قلب المركز الثقافي الكبير إلى صالات العرض في المراكز التجارية والأحياء الطرفية. ويشهد المهرجان في دورته السابعة والعشرين (13–22 يونيو) عرض ما يقارب 1000 فيلم عالمي، يتم عرض كل منها مرتين على الأقل، مع تكرار إضافي للأعمال التي تلقى رواجًا جماهيريًا كبيرًا.
ورغم أن تذكرة الدخول إلى عروض المهرجان تُكلّف ضعف تذكرة السينما العادية (10 دولارات مقابل 5)، فإن الإقبال الكثيف والمتصاعد من الجمهور يؤكد شغف الصينيين، وخاصةً الجيل الشاب المتصل بالعالم الرقمي والعولمة، بمعرفة الآخر والتواصل مع قصصه وثقافته. هذا الشغف يتجاوز السينما ليعكس أنماطًا أوسع من التفاعل مع العالم، منها السفر والسياحة التي أصبح فيها الصينيون من الشعوب الأكثر حركة خلال العقد الأخير.
حضور عربي خجول ولكن لافت
رغم التنوع الجغرافي واللغوي الكبير في عروض المهرجان، تبقى المشاركة العربية محدودة، خصوصًا في المسابقات الرسمية التي تغيب عنها الأفلام العربية تمامًا. ومع ذلك، يشارك في دورة هذا العام خمسة أفلام عربية، توزعت على أقسام فرعية من المهرجان، وتنوعت إنتاجيًا وجغرافيًا: فيلمان فلسطينيان، وفيلم تونسي، وآخر لبناني، وفيلم صومالي.
من أبرز هذه المشاركات نجد فيلم "اللي باقي منك" للمخرجة الفلسطينية-الأميركية شيرين دعبس، والذي ينافس ضمن برنامج "أسبوع الحزام والطريق"، أحد الأقسام التي تُمنح الأفلام الفائزة فيها فرصًا للتوزيع داخل الصين. ويشارك في هذا البرنامج أيضًا الفيلم الصومالي "القرية المجاورة للجنة" للمخرج مو هاراوي.
أما القسم المخصص للأفلام الأولى، "أضواء شنغهاي – العمل الأول"، فقد استقبل الفيلم التونسي "وين ياخدنا الريح" للمخرجة آمال قلاتي، بينما حضرت السينما الوثائقية العربية من خلال فيلمين هما: "لا أرض أخرى"، الفيلم الفلسطيني الحائز على جائزة الأوسكار بمشاركة أربعة مخرجين، و"نحنا بالداخل" للمخرجة اللبنانية فرح قاسم، في قسم "وثائقيات شنغهاي".
ورغم تواضع عدد المشاركات، فإن الاختيارات تعبّر عن ميلٍ واعٍ لدى إدارة المهرجان نحو عرض تجارب من مناطق النزاع، ذات طبيعة إنسانية واجتماعية عميقة، وهو توجه ينعكس أيضًا في الحضور الكبير للأفلام الإيرانية.
"اللي باقي منك": ملحمة فلسطينية عبر الأجيال
من بين المشاركات العربية، يبرز فيلم "اللي باقي منك" كواحد من أكثر الأفلام تماسكًا من حيث البنية الفنية والطرح التاريخي. الفيلم، الذي عُرض لأول مرة في مهرجان "صاندانس" في يناير الماضي، يتتبع عبر 145 دقيقة مصير عائلة فلسطينية منذ نكبة عام 1948 حتى اليوم، من خلال سرد عابر للأزمنة والمواقع. اللافت أن ثلاثة أجيال من عائلة بكري تشارك في تمثيل الفيلم: الجد محمد، والابن صالح، والحفيد آدم، إلى جانب شيرين دعبس نفسها ومحمد عبد الرحمن وماريا زريق.
يحمل الفيلم، من الناحية الإنتاجية، جنسيات مشتركة (فلسطينية وألمانية وقبرصية)، رغم أنه في صاندانس عُرض كإنتاج متعدد (ضم السعودية وقطر واليونان والأردن أيضاً). أسلوبه الملحمي والزمن الطويل الذي يغطيه يذكّر إلى حد ما بثنائية "باب الشمس" ليسري نصر الله، إذ يمتزج فيه الطرح السياسي بالتكوين العاطفي والوجداني.
وفي حين قد يكون جمهور شنغهاي غير ملمّ بتفاصيل التاريخ الفلسطيني، فإن الفيلم يقدّم سردًا إنسانيًا بسيط البناء، غنيًا بالمشاعر والتفاصيل، ومؤثرًا على نحو يلامس وجدان أي مشاهد محايد، وهو ما يجعل من هذا العمل جسرًا حقيقيًا للتواصل الثقافي والسياسي في آن.
"القرية المجاورة للجنة": الواقعية الصومالية في أبسط صورها
إذا كان الإقبال على الفيلم الفلسطيني متوقعًا، فإن المفاجأة الكبرى تجسدت في الاهتمام الكبير الذي حظي به الفيلم الصومالي "القرية المجاورة للجنة"، الذي عُرض في صالة خارج نطاق مركز المهرجان، لكنها امتلأت عن آخرها.
الفيلم، الذي سبق أن شارك في قسم "نظرة ما" بمهرجان كان العام الماضي، يقدّم سردًا هادئًا ومشحونًا بالتقشف التعبيري لحياة عائلة في إحدى القرى الصومالية. الشخصية المركزية فيه، مامارجاد، يعمل حفارًا للقبور ويسعى لتعليم ابنه وسط انهيار البنية الاجتماعية والخدمات الأساسية. بينما تحاول أخته، آراويلو، إعالة نفسها عبر مشروع صغير للخياطة.
بعيدًا عن المباشرة السياسية، يطرح الفيلم أسئلة عميقة عن الحياة والكرامة والنجاة في ظل الانهيار الكامل. السيناريو والإخراج للمخرج مو هارواي يبدوان ناضجين، ويحظى الفيلم بلمسة فنية دقيقة في التصوير من خلال مدير التصوير المصري مصطفى الكاشف، ما يمنحه جودة بصرية تضيف إلى صدقيته ومتانته.
"نحنا بالداخل": مرآة شخصية في وداع الأب
أما الفيلم اللبناني "نحنا بالداخل" للمخرجة فرح قاسم، فيمثل تجربة شخصية مؤثرة ضمن قالب وثائقي طويل (180 دقيقة)، وهو بمثابة امتداد لفيلمها السابق "أبي يشبه عبد الناصر"، حيث تتابع فيه المخرجة علاقتها المعقدة مع والدها مصطفى، بعد وفاة والدتها.
تعود فرح إلى طرابلس اللبنانية بعد غياب 15 عامًا في الخارج، وتقضي وقتها الأخير مع والدها المريض، في محاولة لفهمه والتصالح مع صورته، خصوصًا حين تكتشف حياته الاجتماعية الغنية من خلال صالونه الأدبي ورفاقه من شعراء الزمن الجميل.
ورغم الطول الزمني والوتيرة البطيئة، يتمتع الفيلم بصدق شعوري وحميمية منزلية تكشف عن تعقيدات العلاقة بين الأجيال، وعن الإرث غير المادي الذي ينتقل من الآباء إلى الأبناء: الحكمة، والذكريات، والانتماء.
السينما العربية في شنغهاي: حضور نوعي في مواجهة الغياب العددي
في المحصلة، قد تكون المشاركة العربية في مهرجان شنغهاي هذا العام محدودة من حيث الكم، لكنها ثرية في المضمون، وتشير إلى استعداد جمهور عالمي واسع للاهتمام بأصوات من الشرق الأوسط وأفريقيا تتناول قضايا الحرب والنزوح والهوية من منظور إنساني وعاطفي.
في عالم تتسارع فيه الأحداث وتتقلص فيه المساحات الآمنة للرؤية النقدية، تظل السينما أحد آخر الملاذات للتماس مع الحقيقة بشغف وشعرية. ومهرجان شنغهاي، بما يتيحه من تفاعل جماهيري واسع ومنصة فنية مفتوحة، يكرّس ذلك المعنى أكثر من أي وقت مضى.









