-
℃ 11 تركيا
-
12 يونيو 2025
رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا: أبعاد سياسية واقتصادية مشوبة بالحذر
رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا: أبعاد سياسية واقتصادية مشوبة بالحذر
-
24 مايو 2025, 12:03:27 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
موظفون يعدّون كميات من الليرات السورية في البنك المركزي بدمشق يوم الأربعاء. (وكالة الصحافة الفرنسية/صور غيتي)
متابعة: عمرو المصري
في خطوة مفاجئة ذات دلالات سياسية واقتصادية معقدة، أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يوم الجمعة، رفع مجموعة واسعة من العقوبات المفروضة على سوريا، وذلك في أول إجراء كبير لتنفيذ وعد قطعه ترامب خلال زيارته الأخيرة إلى السعودية، والتي التقى خلالها القائد الجديد لسوريا، أحمد الشرع. الخطوة التي وُصفت بأنها "إعادة تشكيل للسياسة الأمريكية" تجاه دمشق، تثير تساؤلات عميقة حول أهدافها الحقيقية، وحدودها العملية، وجدواها في ظل واقع سوري شديد التصدع.
رفع شامل للعقوبات المالية
أعلن وزارة الخزانة الأمريكية أنها قامت برفع فعلي لمعظم القيود المالية التي كانت تمنع الشركات والمواطنين الأمريكيين من التعامل مع الأفراد والكيانات السورية. ويتضمن هذا القرار إصدار "ترخيص عام" يسمح بإجراء معاملات مالية مع بنوك وشركات نقل وموانئ وشركات طاقة وطنية، وحتى الخطوط الجوية السورية. كما شمل القرار إعفاءً خاصًا يسمح للمؤسسات المالية الأمريكية بفتح حسابات لـ"البنك التجاري السوري"، الذي كان محظورًا بموجب قانون "باتريوت آكت".
وفي موازاة ذلك، أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية إعفاءً مؤقتًا من العقوبات لمدة ستة أشهر عن القيود التي فُرضت في عام 2020 بموجب "قانون قيصر"، والذي كان يُستخدم لفرض عقوبات ثانوية على شركات أجنبية تتعامل مع الحكومة السورية.
وعود إنسانية.. وقيود باقية
برّر وزير الخارجية ماركو روبيو هذه الخطوة بأنها تهدف إلى "تسهيل توفير الكهرباء والطاقة والمياه والصرف الصحي، وتمكين استجابة إنسانية أكثر فعالية في جميع أنحاء سوريا". لكن هذه التصريحات تصطدم بالواقع القانوني والسياسي الذي يشير إلى أن العقوبات لم تُرفع كليًا، وأن القيود على التعامل مع كيانات على لائحة العقوبات، وعلى الجهات المرتبطة بإيران وروسيا وكوريا الشمالية، لا تزال قائمة.
كما أن شركات وقطاعات استراتيجية بقيت خاضعة للقيود، مثل أكبر شركة اتصالات سورية، وعدد من المسؤولين في الحكومة الانتقالية بقيادة الشعار، في حين أن مصرف سوريا المركزي وإن تم شطبه من قائمة العقوبات، إلا أن أصوله بقيت مجمّدة.
قرار سياسي مغطى بإطار اقتصادي وإنساني
يرى خبراء أن رفع العقوبات لا يمكن فصله عن حسابات واشنطن الجيوسياسية، خاصة في ظل التحولات الإقليمية الجارية. إذ جاء إعلان ترامب عن القرار من السعودية، في إشارة غير عفوية إلى التنسيق مع حلفاء واشنطن في الخليج، وإلى رغبة في إعادة إدماج سوريا ضمن النظام الإقليمي وفق شروط أمريكية.
لكن توقيت القرار ودلالاته يطرحان علامات استفهام. فبينما تدّعي الإدارة أن الخطوة تأتي لتخفيف المعاناة الإنسانية وإطلاق عملية إعادة إعمار طويلة الأمد، يتفق مراقبون على أن القرار مؤقت وهش، ولا يوفّر الضمانات الكافية لجذب استثمارات حقيقية في اقتصاد سوري منهك، ما يجعل رفع العقوبات أقرب إلى رسالة سياسية منه إلى خطة اقتصادية ذات جدوى.
عودة تدريجية إلى النظام الدولي؟
اللافت أن الترحيب الشعبي في دمشق رافقته حفاوة رسمية، حيث اعتبرت وزارة الخارجية السورية الخطوة الأمريكية "تقدمًا إيجابيًا" نحو تخفيف المعاناة الإنسانية والاقتصادية. أما من الجانب الأمريكي، فقد وصف وزير الخزانة سكوت بيسنت القرار بأنه محاولة لوضع البلاد على "مسار مستقبل مشرق ومزدهر ومستقر".
إلا أن الكثير من التحفظات بقيت قائمة، خصوصًا أن هذا التحول لا ينفصل عن التغير الكبير في القيادة السورية، حيث سقط نظام بشار الأسد في ديسمبر على يد فصائل متمردة، ممهّدًا الطريق أمام حكومة جديدة بقيادة أحمد الشرع، المعروف سابقًا بلقب "أبو محمد الجولاني"، والذي كان جزءًا من تنظيمات مرتبطة سابقًا بالقاعدة، قبل أن يقدّم نفسه الآن كزعيم معتدل راغب في التعاون مع الغرب والخليج لإعادة بناء سوريا.
الاقتصاد السوري على حافة الانهيار
من الناحية الاقتصادية، يبقى الوضع في سوريا كارثيًا. فبحسب تقديرات البنك الدولي، انهار الناتج المحلي الإجمالي من 252 مليار دولار قبل الحرب إلى نحو 9 مليارات فقط في عام 2021، ويعيش أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر. هذا الانهيار لا يمكن عزله عن آثار العقوبات الدولية الطويلة، لكنه أيضًا نتيجة مباشرة لحرب دامت أكثر من عقد، دمّرت البنى التحتية، وشردت ملايين السوريين.
رفع بعض العقوبات اليوم لا يعني بالضرورة بداية جديدة، ما لم يصاحبه تدفق فعلي للاستثمارات، وإصلاح إداري، واستقرار سياسي وأمني. وفي ظل استمرار الحذر الدولي تجاه القيادة الجديدة في دمشق، يبقى مشكوكًا في قدرة الشعار على كسب الثقة الدولية المطلوبة لإعادة سوريا إلى قلب النظام المالي العالمي.
رسائل إلى الخصوم والحلفاء
من جهة أخرى، يُقرأ القرار الأمريكي كرسالة مزدوجة: أولًا إلى الخصوم الإقليميين مثل إيران وروسيا، مفادها أن واشنطن لن تترك الساحة السورية لهما، وثانيًا إلى حلفائها الخليجيين، بأنها ما زالت لاعبًا رئيسيًا في ترتيب ما بعد الحرب. إلا أن هذه الرسائل قد ترتد سلبًا، خصوصًا إذا ثبت أن "رفع العقوبات" ليس سوى غطاء دبلوماسي لعملية إعادة تموضع أمريكية، تخلو من التزامات فعلية تجاه الاستقرار أو الإعمار.
الرهان على الاعتدال الجديد
يبقى مصير هذه الخطوة مرهونًا بسلوك القيادة الجديدة في دمشق. فالتزاماتها بعدم توفير ملاذ آمن للتنظيمات الإرهابية، وضمان حقوق الأقليات الدينية والعرقية، ستكون محل مراقبة دقيقة من قبل واشنطن. وفي حال فشل الشعار في تقديم نموذج حكم مختلف عن سلفه، فقد تنهار هذه الانفراجة المؤقتة، وتعود سوريا إلى العزلة الاقتصادية والدبلوماسية من جديد.
باختصار، فإن القرار الأمريكي برفع العقوبات ليس نهاية فصل العقاب الاقتصادي، بل بداية اختبار سياسي طويل، تتوقف نتائجه على التوازن بين المصالح الأمريكية، وحسابات الاستقرار السوري، ومتغيرات الإقليم المتشابكة.









