التهدئة المؤقتة ضرورة تكتيكية

د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: هدنة أم كرة لهب أم مخاض شرق أوسط؟

profile
د. محمد إبراهيم المدهون كاتب ووزير فلسطيني سابق
  • clock 10 يوليو 2025, 6:07:16 م
  • eye 437
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
تعبيرية

في الوقت الذي كان فيه العالم يترقب تهدئة وشيكة في غزة، كانت تل أبيب تُعدّ لضربتها في اليمن، في مشهد يعكس بدقة خديعة قديمة متجددة من أولئك الذين "يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم". لطالما استخدمت إسرائيل مصطلح "التهدئة" كغطاء استراتيجي لإغلاق جبهات المقاومة واحدة تلو الأخرى، من لبنان وسوريا والعراق، وصولًا إلى باب المندب. وبينما كانت المفاوضات تُدار في الدوحة على وقع أعمدة الركام، وكان نتنياهو يراهن على صفقة تمكّنه من تثبيت أقدامه داخل الحلبة السياسية وإيداعها في جيب ترامب، كانت المقاتلات الإسرائيلية تدك الحُديدة بصمتٍ بارد، في إعلان غير مباشر بأن شروط التهدئة تُكتب على فوهة المدفع لا على طاولات الوسطاء. ما لم تحسبه تل أبيب أن الزمن تغيّر، وأن صوت كعب فتى فلسطيني يركض حافيًا نحو ناقلة جند، يزرع عبوة ناسفة، بات أعلى من كل مؤتمرات التسوية، وأقوى من كل صفقات الردع.

لقد كتب داوود العصر بمقاومته الملحمية منهجًا لا يُدرّس في الكليات العسكرية، بل يُرتّل على ركام خانيونس وبيت حانون وأخواتها من مدن الصمود. منهجًا يهزّ الأرض تحت قدميه، فتنبع من تحتها ملامح شرق أوسط جديد. وبينما كان كاتس يعلن مشروع الغيتو العنصري في رفح الممسوحة حدّ الإبادة، تمهيدًا لتهجير جماعي يُكرّس نكبة ثالثة برائحة دولارات وفضائح "أورورا" عبر مؤسسة صهيوأمريكية بغطاء إنساني، كانت قاعة فندقية في فيينا تحتضن مشهدًا نقيضًا، حيث وقف حاخامات من شتى بقاع الأرض ليعلنوا أن الصهيونية لا تمثّل اليهودية، وأن (إسرائيل) نظام فصل عنصري يجب تفكيكه. لأوّل مرة، نطقت الضمائر المحررة من ذاكرة المحرقة لتقف مع غزة، لا تعاطفًا، بل التزامًا أخلاقيًا، معلنين دعمهم للمقاومة ورفضهم لحلّ الدولتين، ومطالبين بدولة واحدة من النهر إلى البحر. بين قفزة الفتى الحانوني والخانيونسي وكلمة الحاخام الذي قال "إن أهل غزة أشجع من بني إسرائيل أيام فرعون"، وصاروخ يمني حلق فوق البحر الأحمر، تتشكل ملامح مشهد جديد: تل أبيب تحاول إغلاق الجبهات، لكن غزة فتحت بوابة التاريخ.

وفي الوقت الذي يُروّج فيه لتهدئة الستين يومًا كأنها بارقة أمل، يأتي تصريح كاتس حول "معسكرات اعتقال نازية" لسكان غزة ليعيد كل شيء إلى حقيقته: ليست زلّة لسان، بل إنذار بمخطط استعماري يعيد هندسة الواقع السكاني للقطاع، ويُغلف التهجير باسم "الترتيبات الأمنية". بالنسبة للاحتلال، الحرب فرصة وجودية لحسم الصراع، أما العرب، فتعاملوا معها كأنها مجرّد محطة مؤقتة لالتقاط الأنفاس. وحين تتشابك جبهات اليمن وسوريا ولبنان، وتُلوَّح التهديدات نحو تركيا وباكستان، تتضح أن المعركة تتجاوز فلسطين لتطال الأمة جمعاء: مواردها وشعوبها، في ظلّ صمت رسمي مريب وتفكك داخلي يتغذى على الحروب والتهجير والاختراق. وهنا، تصبح الحاجة لإعادة تعريف الأمن القومي العربي والإسلامي ضرورة وجودية، لا شعارًا أجوف.

في الساحة الإقليمية، حظي وقف إطلاق النار بين إيران والمحور الصهيوأمريكي بترحيب دولي حذر، وسط تصريحات متضاربة بين نتنياهو وترامب، حيث أعلن الأول تدمير البرنامج النووي الإيراني، بينما تؤكد التقارير الاستخباراتية أن طهران خرجت من المعركة أكثر تماسكًا وقوة. بينما الإعلام الغربي انقسم بين من رأى في الهدنة فرصة لإطفاء جبهة غزة، وآخر حذّر من أنها مجرد استراحة قصيرة قبل انفجار قادم. وفي لحظة دالة، أعلنت إيران تخلّيها الكامل عن نظام GPS الأميركي لصالح النظام الصيني "بيدو"، في رسالة صريحة تقول: من يملك الأقمار، يرسم خرائط الحرب المقبلة. تفوق واشنطن التكنولوجي يتآكل، والصين تصعد، وإيران تُعيد التموضع كقوة إقليمية لا يمكن تجاهلها.

وعلى هامش هذا المشهد، جاء بيان قمة البريكس ليكشف وجهاً آخر من وجوه الاصطفاف العالمي. إعلان دعم "حلّ الدولتين"، فحين تتبنى قوى صاعدة، تُقدَّم كبديل للنظام الغربي، ذات الرؤية التي أفرغت الحقوق الفلسطينية لعقود، يبرز سؤال جوهري عن صدقية التحولات الجيوسياسية، ومدى استعداد هذه القوى للوقوف في وجه وحيد القرن. غزة، التي تنهض من تحت الركام، لا تنتظر عواصم العالم لتعترف بها، بل تفرض حضورها بدم أبنائها، وتُعيد تعريف السيادة والمشروعية من ساحة المعركة، لا من صالات المؤتمرات.

على طاولة ترامب، يُدار كل شيء كمزاد سياسي مفتوح: الضفة على طاولة التهويد، وغزة كمشروع ترحيل وتمزيق، مقابل إخراج نتنياهو بصورة "البطل المنتصر" بعفو قانوني وضمانات بالاستمرار السياسي. أما الفلسطيني، فخارج المعادلة، ويحاول انتزاع وقف للمقتلة، لا تثبيتًا للحقوق. 

وسط هذه الصورة، تتعمّق الأزمة البنيوية داخل الاحتلال: عسكرية، سياسية، اقتصادية، اجتماعية. طوفان الأقصى لم يكن مجرد عملية، بل لحظة كاشفة لخلل استراتيجي في العقيدة الصهيونية نفسها. والاتفاق الموعود، أيًا كان اسمه، ليس بريئًا، بل مُصمم بإحكام ليمنح الاحتلال حق التنصّل، ويبقي مستقبل غزة رهينة لتفسيراته الأمنية. في المقابل، تدرك المقاومة أن مهمتها اليوم لا تقتصر على الدفاع، بل على تفكيك المشهد المركب بوعي استراتيجي.

في غزة، حيث المجاعة والدمار والفراغ الأمني والانفلات، تصبح التهدئة المؤقتة ضرورة تكتيكية، لا ناتجة عن ضعف، بل عن حسابات عقلانية تهدف إلى الحفاظ على مقومات الصمود، وترميم الجبهة الداخلية، والتأهب للمرحلة الأخطر. الهدنة محطة لإعادة التموضع، والمقاومة وإن أُنهكت تنظيميًا، ما زالت تحتفظ بروح مشتعلة، وذاكرة حية، وأدوات حرب المدن. (إسرائيل) تملك الدبابة، لكن غزة تملك المعنى. والمعنى هو ما يُفقد بينما تُباد غزة بصمت. مئات الآلاف من الأرواح سُحقت، نصفهم أطفال، قرى أُزيلت من الجغرافيا والذاكرة، ومؤسسات إنسانية تُستخدم كأذرع ناعمة لتفكيك ما تبقى من الحلم الفلسطيني، فيما تُستهدف الأونروا بوصفها الشاهد الأخير على النكبة.

في خضم هذا الجرح المفتوح، تتسارع التحولات الكبرى في الإقليم والعالم: بين "صدام الحضارات" لهنتنغتون و"رقعة الشطرنج" لبريجينسكي، وبين معارك الغاز والمياه والبيانات، يُعاد رسم خريطة الشرق الأوسط. لم تعد فلسطين مجرد قضية وطنية، بل نقطة تماس حضاري بين مشروع الهيمنة الغربية وأحلام التحرر الشرقي. (إسرائيل) تتآكل من الداخل، وواشنطن تتخبط، وإيران تتحرك ببطء وبأعصاب باردة. أما العرب، فالغائب الأكبر. الشعوب حاضرة بالألم، لكن الأنظمة مغيبة عن القرار، والنخب مستبعدة عن التأثير، وكأن الأمة جُردت من حقها في أن تكون جزءًا من العالم الجديد الذي يُصاغ.

لقد كشفت هذه المحرقة أن المشروع الصهيوأمريكي في الشرق الأوسط قد فشل: فشل في كسر غزة، وفشل في ردع إيران، وفشل في إنهاء المقاومة. لم يعد الصراع على جغرافيا فقط، بل على روح العالم: هل تُحكم من واشنطن ولندن، أم يُعاد تشكيلها من غزة وصنعاء وطهران وبيروت؟ ويبقى السؤال: هل نملك، كعرب، ما يكفي من الوعي والإرادة كي لا نحترق مع كرة اللهب؟ أم أننا سنُقصى من ميلاد هذا الشرق، كما أُقصينا من قرارات موته ذات يوم... على يد سايكس وبيكو؟

 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)