-
℃ 11 تركيا
-
9 سبتمبر 2025
د. لبيب جار الله المختار يكتب: العرب ومكيافللي : جدلية السياسة والأخلاق
د. لبيب جار الله المختار يكتب: العرب ومكيافللي : جدلية السياسة والأخلاق
-
8 سبتمبر 2025, 11:41:17 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
العرب ومكيافللي : جدلية السياسة والأخلاق
عُرف نيكولو مكيافللي (1469 – 1527) بصفته أحد أبرز منظّري السياسة في عصر النهضة الإيطالية، واشتهر كتابه الأشهر (الأمير) بجرأته في فصل السياسة عن الأخلاق، وتقديمه نصائح عملية للحكام تقوم على الواقعية والبراغماتية، ولو تعارضت مع المبادئ المثالية أو القيم الدينية ، وقد أحدثت أفكاره منذ القرن السادس عشر جدلاً واسعاً في الغرب، قبل أن تنتقل إلى العالم العربي عبر الترجمات والنقاشات الفكرية في القرنين التاسع عشر والعشرين.
التلقي الأولي: صدمة فكرية
عند بداية احتكاك العرب والمسلمين بكتابات مكيافللي عبر حركة الترجمة في القرن التاسع عشر، وخصوصاً في مصر والشام، ساد نوع من النفور من فلسفته السياسية ، فقد نظر المثقفون العرب الأوائل إلى كتاب الأمير على أنه دعوة صريحة إلى الخداع، والنفاق السياسي، واستخدام العنف للوصول إلى الحكم والحفاظ عليه ، واعتبر كثير من العلماء والكتّاب أن هذه الرؤية تتعارض بشكل جذري مع مبادئ الإسلام القائمة على العدالة والشورى والأمانة.
التيار الإصلاحي: الحذر والانتقاء
مع صعود رواد النهضة العربية مثل رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، لم يكن هناك انبهار مباشر بمكيافللي، بل محاولة لانتقاء ما يفيد من فكره الواقعي ، فقد رأى بعضهم أن السياسة بطبيعتها تحتاج إلى فن إدارة القوة والمصالح، لكنهم ظلوا يرفضون ما اعتبروه "انفصالاً كاملاً بين السياسة والأخلاق" ، وهنا ظهر خطاب مزدوج: الاستفادة من مكيافللي كمنظر للواقعية السياسية، مع التأكيد على أن المنهج الإسلامي يقدم بديلاً أخلاقياً متكاملاً.
في الفكر العربي الحديث: مكيافللي رمز للبراغماتية
في القرن العشرين، أصبح اسم مكيافللي في الثقافة العربية مرتبطاً بالدهاء والمكر السياسي ، وجرى استخدام وصف "مكيافللي" في الصحافة والأدب كمرادف للسياسي الذي يبرر الوسيلة مهما كانت لتحقيق غايته ،وأن بعض المفكرين، مثل المفكر المصري عبد الرحمن بدوي، درس نصوص مكيافللي بعمق، ورأى أن الرجل كان يعكس واقعه الإيطالي المضطرب أكثر مما يقدم وصفة عالمية ، وفي المقابل، استلهم بعض المفكرين العرب فكرة الواقعية السياسية لتفسير ممارسات القوى الاستعمارية، معتبرين أن فهم "المكيافللية" ضروري لمواجهة الغرب نفسه.
الموقف الإسلامي: نقد صارم
من منظور إسلامي ، فقد بقيت أعمال مكيافللي محل رفض، إذ رأى العلماء أنها تمثل منهجاً ينزع القداسة عن الحكم ويُخضع السياسة لمعادلات القوة وحدها ، وقد اعتبر بعض الكتّاب الإسلاميين أن كتاب الأمير دليل على إفلاس الفكر السياسي الغربي إذا قورن بمبادئ الحكم الراشد في الإسلام ، غير أن بعضهم دعا إلى قراءة مكيافللي من باب "معرفة الخصم" لا من باب الاقتداء به.
بين الرفض والاستفادة
اليوم، لا يزال العرب والمسلمون ينظرون إلى مكيافللي بعيون متباينة: فهناك من يراه رمزاً للخيانة السياسية وغياب القيم، وهناك من يعتبره مفكراً واقعياً يجب فهمه لاستيعاب منطق القوة في العلاقات الدولية ، وفي ظل التحديات المعاصرة، يبدو أن حضور "المكيافللية" في الفكر العربي والإسلامي سيظل قائماً، سواء كتحذير من السياسة غير الأخلاقية، أو كمرجع لقراءة السياسة العالمية بعيداً عن المثاليات.
في الصحافة والأدب العربي بالقرن العشرين، أصبح وصف "مكيافللي" مرادفًا للمكر السياسي والازدواجية ، وأن بعض المفكرين القوميين واليساريين قرأوا مكيافللي لفهم منطق القوة الذي اعتمدته القوى الاستعمارية في المنطقة، معتبرين أن إدراك "المكيافللية" شرط لمواجهة الغرب نفسه.
وقد اعتُبر الأمير دليلاً على الإفلاس الأخلاقي للفكر السياسي الغربي، وجرى التحذير من نقل هذا النهج إلى المجتمعات الإسلامية ، ومع ذلك فأن بعض التيارات الإسلامية اعتبرت قراءة مكيافللي مهمة من باب "معرفة الآخر" وفهم منطق السياسة الدولية المعاصرة.
صورة مكيافللي في الوعي العربي الشعبي
في اللغة الصحفية والسياسية العربية، أصبح "مكيافللي" لقبًا يطلق على الساسة الذين يبررون الوسيلة للوصول إلى الغاية، حتى لو كانت الوسيلة خيانة أو عنفًا ، كما ان الأعمال الأدبية والمسرحية العربية التي تناولت السياسة أحيانًا صورت السياسي المكيافللي على أنه انتهازي بلا مبادئ، في إشارة إلى رفض المجتمع العربي لمثل هذا النموذج.
أن الانفصال التام بين الأخلاق والسياسة الذي طرحه مكيافللي، يرفضه العقل العربي، باعتباره يتناقض مع التراث الإسلامي.
لذا فيمكن القول إن العرب والمسلمين لم يتعاملوا مع مكيافللي على أنه "معلّم" بقدر ما تعاملوا معه على أنه "ظاهرة فكرية" يجب فهمها وتفكيكها ، فقد رأوا في كتبه تحذيرًا من انحراف السياسة عن الأخلاق، وفي الوقت نفسه مفتاحًا لفهم العقل الغربي الذي حكم العالم لقرون ، وبين الرفض المطلق والاستيعاب المشروط، ستظل أفكار مكيافللي حاضرة في النقاشات الفكرية العربية والإسلامية كلما عاد الحديث عن السياسة و الأخلاق .







.jpg)
.jpg)