توينبي بوصفه مؤرخًا دبلوماسيًا

د.لبيب جار الله المختار يكتب: أرنولد توينبي وقضايا العراق في العهد الملكي (1921–1958): رؤية تحليلية في ضوء كتاباته وأعماله

profile
د. لبيب جار الله المختار كاتب ومحلل سياسي
  • clock 26 يوليو 2025, 7:08:28 م
  • eye 431
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
أرنولد توينبي

يُعد المؤرخ والفيلسوف البريطاني أرنولد توينبي (Arnold J. Toynbee) أحد أبرز مفكري القرن العشرين الذين انشغلوا بتحليل العلاقات الدولية، وصراع الحضارات، وتحولات الشرق الأوسط في ضوء التغيرات السياسية والاجتماعية ، وكان العراق خلال فترة العهد الملكي (1921–1958) أحد أبرز المحاور في تحليلاته، سواء من حيث موقعه الجغرافي الاستراتيجي أو من حيث التحديات التي واجهها في سعيه نحو بناء دولة حديثة تحت مظلة النفوذ البريطاني .

توينبي بوصفه مؤرخًا دبلوماسيًا

ولد أرنولد توينبي عام 1889 وارتبط اسمه بموسوعته الضخمة "دراسة في التاريخ" (A Study of History)، إلا أن توينبي لم يكن فقط مؤرخًا أكاديميًا، بل عمل أيضًا مستشارًا ومحللًا في وزارة الخارجية البريطانية، خصوصًا أثناء وبعد الحربين العالميتين.

ما يميز توينبي هو مزيجه بين التحليل الحضاري والتقييم السياسي، إذ يرى أن المجتمعات لا تنهض إلا عندما تستجيب بشكل خلاق للتحديات. وكان هذا المفهوم جوهريًا في تحليله للدول العربية، ومنها العراق، الذي اعتبره نموذجًا لتحدي الغرب الحديث في مجتمع يحمل بقايا الحضارات القديمة.

وقد ترك توينبي في تقاريره ومحاضراته وكتاباته عدداً من الإشارات المباشرة وغير المباشرة عن العراق، ركزت على تحديات بناء الدولة، مثل التعدد الاثني والطائفي، الاستعمار البريطاني، والهوية الوطنية ، وفي هذه المقالة سنقوم بتحليل رؤيته لقضايا العراق في العهد الملكي من خلال عدة محاور أساسية، وهي: نظرة توينبي للاستعمار البريطاني، تحليله لبنية الدولة العراقية، مواقفه من النخبة السياسية، وتوقعاته لمستقبل العراق.

توينبي والاستعمار البريطاني في العراق

رأى توينبي في الاحتلال البريطاني للعراق بعد الحرب العالمية الأولى امتداداً لمنطق "الهيمنة الإمبراطورية" وليس فقط نشاطاً حضارياً كما كانت تروج له لندن ، وفي مداخلاته ضمن تقارير "المسح الدولي" (International Affairs Survey) التي عمل على تحريرها في ثلاثينيات القرن العشرين والتابعة للمعهد الملكي للشؤون الدولية (شاتام هاوس Chatham house)، أشار توينبي إلى أن الاحتلال البريطاني "ورث" مشكلات الإدارة العثمانية لكنه لم يقدم حلولاً مستدامة، بل فرض نموذجاً من الحكم غير ملائم للطبيعة المركبة للمجتمع العراقي.

وفي كتاباته عن المسألة الشرقية، أشار توينبي إلى أن الاستعمار البريطاني كان يسعى لبناء دولة تخدم مصالحه النفطية والاستراتيجية، لا سيما في البصرة والموصل، أكثر من اهتمامه ببناء مؤسسات وطنية ذات شرعية حقيقية، وقد عارض فكرة أن يكون العراق "تجربة وصاية غربية" تعاد صياغته حسب الرؤية البريطانية، واعتبر أن ذلك يولّد مقاومة كامنة.

الدولة العراقية بين التعدد والانقسام

ركز توينبي في عدد من تحليلاته على أن العراق يواجه معضلة "الاندماج الوطني"، بسبب فسيفسائه الاجتماعية والدينية والعرقية ، وبيّن أن محاولات بناء هوية وطنية موحدة في ظل الاحتلال كانت تواجه عوائق بنيوية، من بينها انعدام الثقة بين المكونات كما يدعي (العرب، الأكراد، الشيعة، السنة، الآشوريون، التركمان) وتدخلات خارجية.

وفي تعليقاته على أحداث ثورة العشرين، رأى توينبي أن الثورة لم تكن فقط رفضاً للوجود البريطاني، بل تعبيراً عن رفض لتقسيم العراق إلى مناطق نفوذ طائفية وقومية، وأنها شكلت أول "وعي جمعي" بالمواطنة الحديثة رغم فشلها في تحقيق أهدافها السياسية المباشرة.

كما انتقد تركيز البريطانيين في القضايا السياسية والاجتماعية على الكثير من الامور القابلة لأثارة المشاكل بين المجتمع العراقي ، ومنها التركيز على نخبة معينة من السياسيين وهو ما اعتبره "لغمًا مؤجلًا" في بنية الدولة العراقية.

النخبة السياسية ومأزق الشرعية

اعتبر توينبي أن النخبة السياسية العراقية خلال العهد الملكي، وإن كانت تتمتع بقدرات فكرية وتنظيمية، فإنها كانت في الغالب رهينة لعلاقاتها مع المستعمر البريطاني ، وفي هذا السياق نظر إلى شخصيات مثل نوري السعيد وياسين الهاشمي على أنهم يجسدون طبقة سياسية "أقرب إلى بريطانيا منها إلى الشارع العراقي".

وفي تقاريره التي كتبها ضمن وزارة الخارجية البريطانية في الأربعينيات، كان توينبي يحذر من أن اعتماد لندن على هؤلاء القادة لا يوفر ضمانة لاستقرار طويل المدى، لأنهم يفتقرون إلى قاعدة شعبية حقيقية، ويراهنون على القمع أكثر من بناء التوافق الوطني.

وقد شدد توينبي على أن "مفهوم الشرعية في الدولة العراقية" ظل هشاً، لأن النظام الملكي تأسس بقرار من الخارج، ولم يحصل على تفويض شعبي فعلي، وهو ما جعل كل عملية تحديث في العراق تراوح بين الشك والرفض الشعبي.

توقعات توينبي لمستقبل العراق

لم يكن توينبي مجرد مؤرخ يصف الوقائع، بل كان مستشرفاً للمستقبل بناء على دراسته لحركة الحضارات ، وفي تحليله لتاريخ العراق، رأى أن البلاد إذا لم تنجح في تجاوز التصدعات الداخلية، وتحرير قرارها السياسي من التبعية، فإنها مرشحة للاضطراب والانقلابات.

وكتب توينبي في الأربعينيات من القرن الماضي أن "العراق لا يمكنه أن يبني دولة قوية وهو أسير لمعادلة استعمارية تمنع تكافؤ الفرص بين مكوناته" ، كما أشار إلى أن القوى الغربية – ومنها بريطانيا – إذا لم تغير سياستها من الإملاء إلى الشراكة، فإن غضب الشعوب سيطيح بكل مشاريعها السياسية.

وقد بدت رؤيته دقيقة إلى حد بعيد، إذ شهد العراق سلسلة من الأزمات والانقلابات انتهت بثورة 14 تموز 1958 التي أطاحت بالنظام الملكي، في تحول تاريخي كبير تنبأ توينبي بمقدماته وإن لم يحدد شكله النهائي.

توينبي ومفهوم "الحضارة الإسلامية" في سياق العراق

يجب الإشارة إلى أن توينبي لم يكن يدرس العراق كحالة منعزلة، بل كان ينظر إليه في إطار حضارة أوسع، هي "الحضارة الإسلامية"، التي اعتبرها من أكثر الحضارات التي تعرضت للتشويه من قبل الغرب ، وكان يرى أن على الغرب أن يعيد النظر في علاقته بالعالم الإسلامي، ليس من منطلق التفوق، بل من منطلق الاحترام والتكامل.

وفي العراق، رأى توينبي أن وجود إرث حضاري كبير من العصر العباسي، مروراً بالتجربة العثمانية، لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه لبناء "نموذج علماني غربي مصطنع". وقد دعا إلى أن تكون التجربة السياسية العراقية نابعة من "روحية المجتمع" وليس نسخة مشوهة من الدولة الأوروبية الحديثة.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)