خانيونس: الجوع يصنع المقاوم ويهزم وهم الاحتلال

د. أميرة فؤاد النحال تكتب: حين يكتب الجائع فقه الصمود بوجه الدبابة

profile
د. أميرة فؤاد النحال كاتبة وباحثة فلسطينية
  • clock 23 أغسطس 2025, 5:03:49 م
  • eye 417
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
تعبيرية

خانيونس لم تكن مجرّد مواجهة عسكرية عابرة، بل كانت نصّاً مكتوباً بالدم على جدار الوهم الصهيوني؛ فالجائع الذي حاصرته المجاعة لعامين لم يمد يده لرغيف مذلّة، بل قبض على قاذفه وأدار ظهره للجوع ليواجه الدبابة، هنا يتجلّى فقه الصمود: أن تتحوّل البطون الخاوية إلى خنادق إيمان، وأن يصبح الجسد الاستشهادي توقيعاً حيّاً على عقد الأرض، فالاحتلال الذي أعلن احتلال غزة فوجئ بأن فتحة نفق واحدة قلبت معادلة الردع، وأن الرواية التي روّجها لم تصمد أمام مشهد المقاوم العائد من النفق بسلام، إنّها ليست عملية عسكرية وحسب، بل إعلانٌ أن الجوع لا يهزم، وأن التدافع قدر الأرض وأهلها.

لم تكن عملية خانيونس مجرّد اشتباك عابر على تخوم تجمع عسكري صهيوني، بل كانت انفجار مشهد كامل في قلب المعادلة، فمن فتحة نفق أعلن الاحتلال اكتشافها من قبل، خرجت مجموعة مقاومة لتقول: إن الأرض تعرف أصحابها، وإن النفق الذي يُقفل على الورق يبقى مفتوحاً في الجغرافيا والإرادة.

تقدّم المقاومون بخفّة الواثقين، عبر مسار يعرفونه كما تُعرف كف اليد، ليصلوا إلى أحد التجمعات العسكرية، وهناك اشتبكوا على تماسٍ مباشر مع قوة مدججة بالدروع والتكنولوجيا، لكن المفارقة أنّ القرار الحاسم لم يكن في يد أجهزة الرصد، بل في يد مقاوم جائع يجرّ معه إرادة غزة كلّها.

ورغم أنّ الاحتلال أعلن مسبقاً اكتشاف النفق وتدميره، عاد بعد العملية ليقرّ في تحقيقاته أنّ الكمائن وُضعت في المكان الخطأ، وأن المعلومات الاستخباراتية لم تكفِ لمنع أكثر من عشرين مقاوماً من قلب المعادلة، لقد تكشّف أنّ ما يسميه العدو "الهندسة الأمنية" لم يكن سوى "هندسة عجز" تنهار عند أول مواجهة ميدانية.

رمزية النفق في خانيونس تجاوزت البعد العسكري؛ فقد صار محراب مواجهة، ونقضاً علنياً لأسطورة الاكتشافات الأمنية التي يسوّقها الاحتلال، فبينما روّج إعلام العدو أنه سدّ الفتحات ودمّر الشبكات، جاء المشهد ليكشف أنّ الخرائط الصهيونية مثقوبة بالإرادة الفلسطينية، وأن الأرض ذاتها تتحوّل إلى ما يمكن تسميته: جغرافيا عصيّة على الإغلاق.

أما الرواية الصهيونية فقد بدت مهلهلة من لحظتها الأولى؛ الاحتلال أعلن أنّه قضى على المجموعة، لكن مقاطع الفيديو التي بثّها بنفسه ارتدت عليه كفضيحة؛ إذ ظهر المقاومون يعودون من ذات النفق بسلام، لقد تكشّف للعيان أنّ ما يسميه العدو هندسة أمنية لم يكن سوى هندسة وهمية، وأن خانيونس رسّخت معادلة: الإرادة تُفجِّر الوهم، والنفق يقهر التكنولوجيا.

لا يمكن فصل عملية خانيونس عن سياقها الأشد قسوة: حصار يتقصّد صناعة المجاعة، وأمعاء خاوية أُريد لها أن تكون سلاح إذلال، لكن ما حدث كان نقيض ما خطط له العدو؛ إذ تحوّلت البطون الجائعة إلى محراب مواجهة، وتحوّل الجوع من قيد إلى محرك اشتباك، فالمقاوم الذي خرج من النفق لم يحمل في يده ثمن رغيف، بل أمسك قاذفه وواجه دبابة تتقدّم نحوه، في تلك اللحظة، كتب مع رفاقه "فقه الصمود" بدمه: أن البقاء على الأرض لا يُشترى بالطعام المسموم ولا بالمساعدات المشروطة، بل يُنتزع بالفعل المقاوم.

وقد أضاف المشهد بُعداً إنسانياً قاسياً: جسد شهيد هزيل، يرتدي حذاءً مهترئاً، يواجه دبابة بترسانة كاملة، هنا تتجلّى رمزية الجسد المقاوم؛ فالهزال الذي أراده الاحتلال علامة ضعف تحوّل إلى أيقونة قوة، والنعال البالي صار شهادةً على أن الصمود ليس رفاهية مادية بل خياراً وجودياً.

هنا تتجسّد معادلة نوعية: الجوع لا يُكسر بالصمت، بل يُكسر بالفعل المقاوم، وما حسبه الاحتلال نقطة ضعف تَحوَّل إلى ما يمكن تسميته: "طاقة الصمود الكامنة"، أي أن المقاومة قادرة على تحويل الألم البيولوجي (الجوع) إلى فعل استراتيجي (الاشتباك)، إنها دلالة فريدة بأن المعدة الخاوية ليست استسلاماً، بل جداراً روحياً يصدّ الدبابة.

من زاوية عسكرية بحتة، مثّلت عملية خانيونس خرقاً صريحاً لجدار الردع الصهيوني، ففتحة نفق واحدة أعلن الاحتلال سابقاً أنه اكتشفها، تحوّلت إلى معبر نار قَلَبَ المشهد من وهم السيطرة إلى ارتباك شامل، فالارتباك ظهر أولاً في تضارب بيانات الاحتلال؛ تارة يعلن عن تصفية أغلب عناصر المجموعة الذين خرجوا من من فتحة تبعد خمسين متراً عن الموقع، وتارة يتراجع ليقول وقع اشتباك مع عدد محدود، ثم يعود ليقرّ أنّه فشل في رصد النفق الصحيح، ومن بين هذه التصريحات، تسلّل إلى العلن تفصيل بالغ الدلالة: المقاتلون كانوا يحملون نقالة، في إشارة إلى نية أسر جنود، إذن.. هذه ليست عملية دفاعية يائسة، بل فعل هجومي مركّب يعكس فقه الأسر المقاوم، أي التفكير في تعظيم الإنجاز حتى في ظل الحصار والجوع.

لقد وقعت المنظومة الصهيونية في فخ السردية: إذ بثّت ما يكذّبها، وأثبتت أن الواقع أقوى من دعايتها، وهكذا ترسّخت القاعدة الجديدة: "نفق واحد يقهر جيشاً كاملاً"، لتؤكد ما نسميه هنا: معادلة الاستحالة العسكرية؛ أي أنّ الاحتلال مهما راكم من قوة وتكنولوجيا، يبقى عاجزاً أمام مجموعات صغيرة تعرف أرضها وتُتقن سرّها.

الرسائل العسكرية للعملية جاءت واضحة:

  • أن المقاومة ما زالت قادرة على اختراق الحصون المحصّنة.
  • أن التكنولوجيا المتقدّمة، مهما بلغت، تُهزم أمام عقل الأنفاق وإرادة المقاتلين.
  • أن جنديّاً واحداً يقاتل حتى النفس الأخير قادر على نسف ما يُسمّى المنظومة الحديدية للاحتلال.

والأكثر دلالة، ما ورد على لسان مسؤول في جيش الاحتلال: "القتال لمدة عامين في غزة أمر معقد وصعب، ومعنويات المقاتلين واحترافيتهم عالية للغاية، لكننا نتعامل مع عواقب قتال متواصل لعامين متتاليين"، وهو تصريح يشي بحقيقة الإرهاق الاستراتيجي الذي ينهش صفوفهم. كما أن الحديث عن الثغرات التي يجب استخلاص العبر منها بسرعة ليس إلا إقراراً بأن المفاجأة النفقية أربكت المنظومة الأمنية بأكملها.

منذ الأشهر الأولى للحرب، لم يخفِ الاحتلال نواياه: الحديث العلني عن احتلال غزة، والتلميح المستمر إلى إعادة التهجير كحلّ جذري للقطاع، لكن عملية خانيونس جاءت كإجابة عملية، لا بياناً سياسياً: الأرض لا تُسلَّم، وأهلها لا يغادرون إلا شهداء.

المقاومون الذين خرجوا من النفق لم يحملوا معهم مستقبلهم الشخصي، بل حملوا هوية جماعية لشعب يُراد اقتلاعه، لقد جسّدوا خياراً استراتيجياً: أن المقاومة ليست مجرد رد فعل على عدوان، بل شرط وجودي يحمي الأرض من أن تتحول إلى "أرض بلا شعب".

هنا تتجلى ما يمكن تسميته: معادلة البقاء المقاوم؛ أي أنّ الوجود الفلسطيني لا يُقاس بعدد السكان أو حجم المساعدات، بل بقدرة المقاومة على إفشال كل مشروع إحلالي، وبذلك تحوّلت خانيونس إلى سقف إنذار يعلن أن أي محاولة لاحتلال القطاع أو تهجير أهله ستُقابل بمستقبل مفتوح على النفق والرصاصة والاستشهادي.

في قلب العملية برز مشهد استثنائي: مقاتل يقترب حتى المدى الصفري من قوة الإسناد الصهيونية، ليفجّر جسده فيهم، لم يكن هذا المشهد فعلاً فردياً، بل كان ترجمة جماعية لروح أمة، فالاستشهادي لم يحمل اسمه الشخصي فقط، بل حمل أصوات المخيمات، وصرخات الجياع، وأحلام من ينتظرون فجراً لا يأتي إلا عبر الدم.

إنّ معنى أن يقاتل المقاوم حتى النفس الأخير، هو أن يتحوّل جسده إلى ميثاق دم، يذكّر بأنّ هذا الشعب لا يُهزم بالحصار ولا بالمجازر، بل إنّ الفعل الاستشهادي في خانيونس مثّل ما يمكن تسميته: النيابة الجهادية، أي أن فرداً واحداً يُجسّد إرادة الملايين حين يضع نفسه على خط النار، وهكذا يصبح الاستشهادي ليس مجرد مقاتل ينهي معركة، بل رمزاً يعيد وصل الفرد بالأمة، ويجعل من موته حياةً ممتدة لشعب بأكمله.

الرسالة الأعمق للعملية ليست عسكرية فقط، بل سياسية بامتياز، فقد جاءت خانيونس لتبطل وهماً متداوَلاً في الغرف المغلقة: أن غزة يمكن أن تُروَّض أو تُباع في صفقة الأمر الواقع، ولكن الدم الذي سال كان كافياً لإعلان بطلان أي صفقة فوقية لا تمرّ عبر إرادة المقاومة.

لقد أثبتت العملية أن التدافع ليس خياراً مرحلياً، بل قدراً مستداماً لهذه الأرض، فكما يفشل الاحتلال في فرض سيطرته الكاملة عسكرياً، سيفشل أيضاً في فرض أي صيغة سياسية على غزة أو شعبها، وهنا يمكننا الحديث عن "فقه التدافع المستدام"، حيث تُدار المعركة بوصفها صراعاً وجودياً طويل النفس، لا جولة عابرة تُحسم باتفاق، وبهذا تحوّلت خانيونس إلى "نقطة إبطال"؛ إذ كسرت السردية الأمنية والعسكرية، وأسقطت فكرة القابلية للترويض، وأعلنت أن غزة ليست مجرد ملف تفاوضي، بل معنى تاريخي عصيّ على البيع والاقتلاع.

عملية خانيونس أكدت أنّ مشروع الاحتلال بالسيطرة أو التهجير يصطدم بواقع لا يمكن تجاوزه: مقاومة قادرة على تحويل الجوع إلى محرّك صمود، والنفق إلى معبر نفي للوهم الصهيوني، لقد برهنت العملية أنّ غزة ليست ساحة قابلة للترويض ولا ملفاً للتصفية، بل حاضنة لفعل مقاوم يفرض نفسه كمعادلة وجودية، وما جرى لم يكن اشتباكاً عابراً، بل إعلاناً جديداً لاستدامة التدافع وإبطال أي صفقة على حساب الأرض والإنسان.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)