في غزة لم يعد الطابور مكاناً للانتظار، بل صار ممراً إلى المقبرة

د. أميرة فؤاد النحال تكتب : الإغاثة المُفخخة: من الطحين إلى التوابيت… حين تتحوّل المساعدات إلى مصائد دموية

profile
د. أميرة فؤاد النحال كاتبة وباحثة فلسطينية
  • clock 25 يونيو 2025, 2:46:14 م
  • eye 411
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
تعبيرية

في مشهد يتكرر حتى أصبح جزءً من يوميات غزة المنكوبة، يقف الفلسطينيون في طوابير طويلة تحت الشمس أو القصف، لا لشيء سوى انتظار كيس طحين أو علبة طعام، لكن الانتظار هنا لا يعني الحياة، بل يعني وقوف على حافة الموت، فمع كل شاحنة إغاثة، هناك قناص، وطائرة، واحتمال انفجار.

 

أكثر من 500 شهيداً ارتقوا حتى الآن وهم يرفعون بطاقات المساعدات لا الرايات، ويحملون أوعية الماء والطعام لا السلاح، هؤلاء لم يُقتلوا في المعارك، بل قُتلوا في صفوف الحياة، قُتلوا لأنهم صدّقوا أن هناك من سيُطعمهم دون أن يُنهيهم، تحوّلت المساعدات شيئاً فشيئاً إلى نظام قتل ببطاقة غذاء، حيث يتمركز الاحتلال على أبواب الحاجة، ويوزّع الموت بدل المعونة، إننا أمام مشهد جديد من مشاهد الهندسة الدموية للإغاثة، حيث يُعاد تعريف الضحية لا كمقاوم، بل كمنتظر لطبق عدس.

 

في غزة، لم يعد الطابور مكاناً للانتظار، بل صار ممراً إلى المقبرة، عشرات الشهداء ارتقوا لا لأنهم حملوا سلاحاً أو صرخوا بشعار، بل لأنهم اصطفّوا للحصول على كيس طحين أو علبة فاصوليا، ومع كل مجزرة أمام نقطة توزيع يتضح أن الأمر لا يتعلق بخطأ ميداني أو اشتباك عرضي، بل بسياسة ثابتة تُمارس بعقل بارد وإرادة عنيفة، واللافت أن هذه السياسة تُنفّذ بصمت دولي، بل وبتواطؤ ناعم تُغلفه رواية الارتباك أو الزحام، وكأن الحياة الفلسطينية بلا قيمة إذا وقفتَ في الطابور، وهذا الطابور الذي يفترض أن يكون طريقاً إلى البقاء، تحوّل إلى ممرّ اغتيال جماعي مُنظّم، هو شكل جديد من الإبادة الذي يُستخدم فيه الجوع والانتظار، إنه الإعدام على مراحل، بالوجبة المؤجلة، والرصاصة المحتملة، والموعد الذي لا يعود منه أحد، وهذه ليست أخطاء، بل هندسة قتل عبر الطابور، والسكوت عنها هو مساهمة في شرعنة الموت بالجوع، فالاصطفاف للمعونة صار في غزة مشهد مقاومة لا يقلّ عن الخندق، لأنه بات فعل تحدٍّ للحصار، ومواجهة مع الاحتلال المُقنّع بغطاء الغذاء.

 

في غزة تطوّر شكل الإبادة ليصبح أكثر خُبثاً وهدوءً، وصار الخبز هو الفخ والسلة الغذائية هي المدخل إلى مربع الموت، نحن أمام نموذج غير مسبوق من السيطرة، من "الإغاثة المُفخخة"، حيث يُحكم الخناق على المدنيين تحت غطاء المعونة، فتجويع الناس لم يعد هدفاً بحد ذاته، بل صار وسيلة لإخضاع الجغرافيا، ولتحويل الحاجات الأساسية إلى نقاط ضغط استراتيجية، ومن خلال إدارة المساعدات يُعاد ترتيب المشهد السكاني، وكأن لقمة العيش أصبحت تصريح مرور أو ربما تذكرة موت مؤجل.

 

لا تحتاج غزة اليوم إلى خيال لتصنع مأساتها، فالمشهد مكتمل: كرتونة غذاء على الأرض مُلطخة بالدم، طفل يصرخ على جسد أبيه الذي خرج صباحاً بحثاً عن كيس طحين، وامرأة تحتضن حقيبة المساعدات وقد اخترق الرصاص ظهرها، هذه لقطات حقيقية من مواقع المجازر التي تحيط بمراكز توزيع المساعدات، والكاميرات لا تكذب: وجوه مذعورة، أجساد ممزقة، أطفال يُسحبون من بين الركام، وصرخات تختلط بأسماء الشهداء، مشاهد متكررة على أطراف كل نقطة إغاثة، وكأن القتل بات مرفقاً إلزامياً في كل نقطة توزيع، إن ما يحدث لا يمكن وصفه سوى بأنه جريمة تحت لافتة الرحمة، حيث تتحوّل نقاط المساعدات إلى حقول دم مفتوحة، يزرع فيها الاحتلال رصاصه بلا هوادة، ويجني منها الفوضى والتهجير.

 

هذه اللقطات التي تُبثّ من تحت الشمس الحارقة أو في ساعات الفجر الأولى، يجب ألا تمر كأخبار عابرة، هي ذاكرة بصرية جماعية للمذبحة المُقنّعة، يجب أرشفتها، وتعليقها على صدر كل من يتحدث عن تحسين الوصول الإنساني، إنها ليست مجرد مشاهد مؤلمة، بل وثائق اتهام ضد نظام يوزّع الموت ببطاقة غذاء، وضد عالمٍ يرى ولا يتحرك، وإنّ تسليط الضوء على هذه اللحظات بكل قسوتها ودموعها، هو في جوهره فعل مقاومة، وصياغة لخطاب جديد: الإغاثة إن لم تكن آمنة، فهي قتل معلّب بلغة الرحمة.

 

المعونة القاتلة لا تترك خلفها فقط قتلى، بل تُعيد تشكيل وعي الناس: هل يجب أن أموت جوعاً أم أن أركض نحو نقطة توزيع وأغامر بأن أُقتل هناك؟ هذا الخيار القاتل هو بحد ذاته شكل من أشكال التصفية النفسية والسياسية، حيث لا تعود الحياة قراراً ذاتياً، بل لعبة مرسومة بين بندقية ومعونة، هذا بالضبط ما يمكن تسميته بالهندسة الإغاثية التي يكون في ظاهرها مجرد مساعدات، وفي باطنها خطة لإعادة تنظيم السكان، وتوزيع الإغاثة في غزة لم يعد مجرد استجابة طارئة لحاجة إنسانية، بل صار جزءً من منظومة أوسع يمكن تسميتها بـ "الهندسة الإغاثية الدموية"، حيث يتم استخدام الرغيف كأداة جيوسياسية، وتتمركز المساعدات في نقاط معينة وبشروط أمنية صارمة، ومع غياب تام للتوزيع المتوازن، يُجبر السكان على التحرك من مناطقهم الأصلية إلى مناطق محددة سلفاً، هذه ليست عملية لوجستية، بل خطة مدروسة لإعادة تشكيل الحضور البشري في القطاع، ويصبح الغذاء ليس فقط حاجة بل خريطة، ويُعاد إنتاج الجغرافيا السياسية للنجاة وفقاً لشروط الاحتلال.

 

وفي ظل غياب الضمانات، يتحوّل انتقال الناس إلى مناطق توزيع المساعدات إلى نزوح طوعي قسري، يتكرّس بمرور الوقت على أنه واقع دائم، وهو ما يُعد أخطر أشكال التهجير، لأنه يتم بهدوء وبلا لجوء، في غياب الرصاص وبحضور شاحنة إغاثة، إنها ليست مجرد قافلة شاحنات تمر، بل خارطة سكانية جديدة تُرسَم بالطحين ويتم تمريرها بغطاء دولي، بينما يُغلق العالم عينيه عن حقيقة أن المعونة أصبحت سلاحاً لإعادة ترسيم الأرض والناس.

 

في معركة السرد، يكون الصمت خيانة والكلمة جبهة، وما يجري في غزة اليوم ليس فقط قصفاً ممنهجاً للبيوت، بل محاولة موازية لقصف الحقيقة، ولإعادة تشكيل الوعي الجمعي بما يُناسب الجلاد، وفي ظل هذا تتحول مهمة توثيق المجازر إلى ما هو أكبر من مجرد تسجيل للضحايا؛ إنها عملية استرداد للمعنى، وإعادة تعريف للمساعدة التي أصبحت أداة ناعمة من أدوات القمع، حيث أنّ الصور التي تخرج من نقاط التوزيع، الشهادات التي تسجلها الكاميرات المرتجفة، الأطفال الذين يتحدثون عن الطحين والرصاص في جملة واحدة، كل هذا يشكّل مادة حية لصياغة ما يمكن تسميته بـالسردية المقاومة، إنها السردية التي لا تكتفي بوصف الحدث بل تُعرّي خلفياته، وتفكّك بنيته، وتربط بين الطحين وبين فوهة البندقية.

 

في مواجهة الرواية الصهيونية التي تصف الضحايا بـالأضرار الجانبية، يُصبح واجب الإعلام المقاوم ليس فقط الرد، بل نزع الغلاف الإنساني الزائف عن الجريمة، وكشف منظومة الإغاثة القاتلة التي تم تصميمها لتنتج القتل لا النجاة، والتي تُدار بدقة سياسية لا رحمة فيها، وهنا فإنّ السردية المقاومة لا تتوقف عند التوثيق، بل تصر على العدالة، تعيد تعريف المعونة، وتطرح الأسئلة المحرّمة: من يموّل هذا الشكل من الإبادة؟ من يصمت عن مشاهد القتل عند طوابير الطعام؟ من يغطي بالجغرافيا السياسية ما لا يمكن تبريره إنسانياً؟ ولنعلم أنّ كسر الصمت ليس ترفاً إعلامياً، بل هو جدار صدّ أخير في وجه آلة تُريد أن تقتل الفلسطيني مرتين: مرة بالرصاص، ومرة بالنسيان.

 

حين تصبح نقاط توزيع المساعدات ساحات للإعدام، ويغدو الطحين محفوفاً بالموت، تصبح إعادة النظر في المنظومة أمراً لا يحتمل التأجيل، ما يجري في غزة ليس خللاً في التنفيذ، بل خللاً في التصوّر الإنساني ذاته، حيث تحوّلت المساعدات من أداة للنجاة إلى آلية لإعادة إنتاج الإبادة، فلا يمكن أن يُبنى أي مشروع إغاثي على مشاهد يجرّ فيها طفل ساقي أبيه الشهيد خارج نقطة توزيع، أو على لقطات نساء يصرخن فوق أكياس طحين اختلطت بالدم، وأي استمرار في هذا النموذج هو قبول ضمني بـمجزرة يومية صامتة، لهذا.. يجب أن يكون الحديث عن المنظومة البديلة للنجاة محور كل نقاش إنساني وسياسي قادم.

 

منظومة لا تعتمد على إذن عسكري ولا على خريطة حددها الاحتلال، بل على مبادئ القانون الإنساني الدولي، وعلى إشراف دولي نزيه وشفاف، يُجرد "إسرائيل" من صلاحية إدارة الجوع كسلاح، ويُنقذ المدنيين من المقايضة الدموية بين الرغيف والرغبة بالبقاء، فتدويل الإشراف على الإغاثة وتوزيعها بآليات شفافة وآمنة هو بداية استعادة الحد الأدنى من الكرامة في زمن تُستباح فيه حتى طوابير المحتاجين، نحتاج إلى ممرات لا تُنصب فيها الكمائن، وإلى مساعدات لا تحمل توقيع القناص، وإلى شاحنات لا تتقدم إلا بعد أن يُؤمّن الظهير الأخلاقي والسياسي والإنساني لها.

 

لقد فُضح المشهد، كرتونة الطعام التي كانت تُقدَّم كدليل على الرحمة، انكشفت على حقيقتها: عبوة موت مغطاة بالإنسانية، والمساعدات لم تكن مجرّد استجابة عاجلة، بل جزء من شبكة تحكم تمتد من السياسة إلى السلاح، ومن الخريطة إلى الطابور.

 

إن الصمت على هذا النموذج هو شراكة ضمنية في القتل، والسكوت عن نزيف المذابح أمام مراكز التوزيع هو التطبيع الكامل مع فكرة أن الفقير لا يحق له النجاة إلا بشروط قاتله.

 

سيبقى صوت الشعب الفلسطيني هو الكاشف الأهم لكل هذه التزييفات، ويبقى التوثيق، والإعلام، والعدسة، والكلمة الحرة كلها جبهات مقاومة لا تقلّ عن خندق الصاروخ، وفي زمن الإبادة ببطاقة الغذاء، يجب أن نعيد تعريف النجاة، وأن نقولها بوضوح: المعونة التي تمرّ على جثة ليست نجدة، بل جريمة مكتملة الأركان.

التعليقات (0)