أنقاض الخرطوم تحاصر ذاكرة السودان: حربٌ تقتل البشر وتسرق التاريخ

profile
  • clock 1 أكتوبر 2025, 11:45:09 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
إحصاء نحو أربعة آلاف قطعة أثرية مفقودة بالسودان- رويترز

متابعة: عمرو المصري

بعد مرور أكثر من عامين على اندلاع الحرب في السودان، التي أودت بحياة عشرات الآلاف وتسببت في نزوح الملايين من السكان، تمكن الجيش السوداني خلال فصل الربيع من طرد قوات الدعم السريع شبه العسكرية من العاصمة الخرطوم وضواحيها. غير أن هذا التقدم العسكري لم يكن كافياً لإنقاذ وجه المدينة، إذ ما زال جزء كبير من الخرطوم غارقاً في الخراب والدمار، بما في ذلك العديد من المواقع التراثية والتاريخية التي لحقت بها أضرار جسيمة. فقد تضررت مواقع أثرية بفعل القتال المباشر، في حين تعرضت أخرى للنهب على يد لصوص قاموا بتهريب قطعها النادرة إلى دول مجاورة، ليجد السودان نفسه أمام معركة جديدة عنوانها حماية الذاكرة التاريخية من الضياع.

آثار في مهب الريح

داخل المتحف القومي السوداني، القابع بالقرب من ملتقى النيلين الأزرق والأبيض في قلب العاصمة، تناثرت بقايا قطع الفخار القديمة وشظايا التماثيل التاريخية بين الزجاج المهشم وفوارغ الطلقات، في مشهد يلخص مأساة الآثار السودانية في زمن الحرب. ومع عودة بعض خبراء الحفاظ على الآثار بعد تقدم الجيش، بدأ هؤلاء عملهم وسط الحطام محاولين إنقاذ ما تبقى، وجمع القطع المبعثرة، والسعي إلى ترميمها بقدر المستطاع.

وقالت رحاب خضر الرشيد، رئيسة اللجنة المكلفة بتقييم الأضرار وتأمين المتاحف والمواقع الأثرية في ولاية الخرطوم، وهي تقف وسط ردهة امتلأت بالركام: "المتحف تضرر ضرراً بالغاً جداً.. تمت سرقة كمية كبيرة من القطع الأثرية، وكل قطعة لها قصة، وكلها مهمة، لكن المسروقة كانت بالغة الأهمية بالنسبة لنا كآثاريين".

من جهتها، كشفت إخلاص عبد اللطيف، مديرة إدارة المتاحف بالهيئة العامة للآثار والمتاحف، أن الحصر الأولي أظهر فقدان نحو أربعة آلاف قطعة أثرية من مختلف المواقع في السودان. وأشارت إلى أن النهب لم يقتصر على الخرطوم وحدها، بل طال أيضاً متاحف في إقليم دارفور غرب البلاد، حيث سُجل اختفاء نحو 700 قطعة أثرية من متحفي مدينتي نيالا والجنينة، موضحة أن أمين متحف الجنينة قُتل أثناء قصف المبنى. وأكدت أن كثيراً من هذه القطع تم تهريبها بالفعل إلى دول مجاورة، لينضم السودان إلى قائمة دول مثل العراق وسوريا وليبيا ومصر التي عانت من تفشي ظاهرة تهريب الآثار عقب الاضطرابات السياسية.

معابد منسية وسط الدمار

يضم فناء المتحف القومي في الخرطوم عدداً من المعابد والقطع الأثرية التي نُقلت من شمال السودان في ستينيات القرن الماضي للحفاظ عليها من الغرق بعد بناء السد العالي في أسوان بمصر. ومن أبرز هذه المعابد معبد بوهين، الذي شيدته الملكة المصرية حتشبسوت في القرن الخامس عشر قبل الميلاد. إلا أن المعبد لم يسلم من آثار الحرب، حيث تضررت أجزاؤه الداخلية والخارجية بشكل كبير، مما دفع السلطات إلى محاولة إصلاحه، وإن كان ذلك بموارد محدودة للغاية.

رحاب خضر الرشيد أشارت إلى أن تأثير الحرب على هذه المعابد كان واسع النطاق، وظهر جلياً في الأسقف والجدران والزجاج الخارجي المحيط بها، مؤكدة أن فريق الهيئة العامة للآثار والمتاحف يحاول القيام بأعمال صيانة بسيطة بإمكانات شحيحة، مع مناشدة السلطات والجهات المعنية لتقديم الدعم اللازم من أجل استكمال عمليات الترميم وإنقاذ هذه المعالم التي تمثل جزءاً لا يتجزأ من تاريخ السودان والمنطقة بأسرها.

لكن الخسائر لم تقتصر على المتحف القومي، إذ لحق الدمار بمتحف القصر الجمهوري أيضاً، حيث غطت الأتربة والحطام قاعاته، وتفحمت جدرانه نتيجة القصف. كما تنتشر سيارات عتيقة كانت جزءاً من مقتنيات المتحف في ساحته الخارجية وقد تهشمت نوافذها ومصابيحها الأمامية، لتقف شاهدة على حجم الخراب الذي أصاب التراث السوداني.

معاناة مضاعفة وموارد غائبة

بحسب تقديرات إخلاص عبد اللطيف، فإن تكلفة إعادة ترميم وصيانة المتاحف السودانية وتأمين ما تبقى من آثارها قد تصل إلى 100 مليون دولار، وهو مبلغ يبدو بعيد المنال في ظل الانهيار الاقتصادي الذي يعيشه السودان حالياً. وتبقى الأزمة أكثر تعقيداً مع غياب البعثات الأجنبية التي كانت تعمل في مجال التنقيب والحفاظ على الآثار، حيث أوضحت رحاب خضر أن نحو 45 بعثة أثرية كانت تنشط في السودان قبل الحرب، إلا أن جميعها توقفت بسبب الأوضاع الأمنية، ولا يعرف متى يمكن أن تعود لمزاولة عملها.

وقالت رحاب: "قبل الحرب كان لدينا نحو 45 بعثة أثرية تعمل في مختلف المواقع بالسودان.. أما اليوم فلا توجد أي بعثة تعمل.. الحرب أوقفت كل شيء، ونحن نأمل أن تعود هذه البعثات وتستأنف نشاطها قريباً".

وهكذا، يجد السودان نفسه أمام خسارة مزدوجة؛ فبينما أحرقت الحرب مدنه وشردت شعبه، فإنها أيضاً فتحت الباب أمام سرقة وتهريب إرثه التاريخي الممتد لآلاف السنين، تاركة آثاراً مشوهة، وذاكرة وطنية مهددة بالضياع في غياب الدعم الدولي والإمكانات المحلية الكافية.

التعليقات (0)