-
℃ 11 تركيا
-
15 يونيو 2025
وقفة عرفات في زمن الانكسار: روح التوحد وجلال المعنى
صعيد عرفة.. وصعيد الدم في غزة
وقفة عرفات في زمن الانكسار: روح التوحد وجلال المعنى
-
27 مايو 2025, 7:31:28 م
-
429
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
وقفة عرفات
متابعة: محمد خميس
في التاسع من شهر ذي الحجة، تهفو القلوب وتخفق الأرواح، ويقف المسلمون من كل بقاع الأرض على صعيد واحد في أعظم مشهد إيماني يجسده يوم عرفة يوم يختزل في طياته معاني التوبة والغفران، والتوحد والالتزام، ويُجسد القيم الروحية العميقة التي تعلو فوق كل اختلاف أو انكسار.
«الحج عرفة»: الركن الأعظم وشهادة التوحيد
قال رسول الله ﷺ: "الحج عرفة"، فجعله الركن الأهم الذي لا يكتمل الحج إلا به. ومع شروق شمس اليوم التاسع من ذي الحجة، ينفر الحجاج من منى إلى عرفات، حيث يقضون يومهم بين دعاء وابتهال، وذكر ودموع، حتى تغيب الشمس.
الوقوف بعرفة لا يشترط أن يكون على جبل معين كما يظن البعض، بل يتحقق بالتواجد في أي جزء من المساحة المخصصة لعرفة والتي تُقدّر بنحو 10.4 كم². أما الجبل الذي يقف عليه البعض، ويُعرف شعبيًا بـ"جبل الرحمة"، فليس له فضل خاص في صحة الوقوف، وإنما الوقوف في عرفة هو الأهم.
سبب التسمية ودلالاتها العميقة
تتنوع الروايات حول سبب تسمية عرفة، وأشهرها أن آدم وحواء تعارفا في هذا المكان بعد خروجهما من الجنة. وهناك رواية أخرى تشير إلى أن جبريل كان يُعرّف إبراهيم مناسك الحج ويقول له: "أعرفت؟" فيرد إبراهيم: "عرفت"، ومن هنا جاء الاسم.
لكن المعنى الأعمق للاسم يتمثل في تحقيق التعارف الحقيقي بين الناس، وتلاقي القلوب، وتبادل المعرفة، والتقارب الإنساني، في لحظة ينصهر فيها الملايين في بوتقة التوحيد والتساوي.
فضل يوم عرفة: الغفران والمباهاة والتجلي
ليوم عرفة مكانة عظيمة في الإسلام؛ فقد وردت أحاديث عدة تُبرز فضله ومكانته، منها قول النبي ﷺ:"ما من يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبيدًا من النار من يوم عرفة"وفيه يباهي الله بعباده أهل السماء ويغفر لهم، ويُشهد ملائكته على صفاء نواياهم ونقاء قلوبهم.
وقت الوقوف وشعائره
يمتد وقت الوقوف بعرفة من زوال الشمس حتى طلوع فجر يوم النحر. يصلي الحجاج صلاتي الظهر والعصر جمع تقديم في مسجد نمرة، ثم يقضون اليوم في الدعاء والذكر، إلى أن يتوجهوا إلى مزدلفة بعد الغروب للمبيت وجمع الحصى لرمي الجمرات في منى.
عرفات: رمز للوحدة والمساواة
في هذا المشهد الفريد، يقف الغني بجوار الفقير، والعالم بجانب الأمي، لا فرق بينهم إلا بالتقوى. يرتدون اللباس ذاته، ويرددون الذكر ذاته، ويقفون أمام الرب ذاته. إن صعيد عرفات هو أعظم مؤتمر بشري في العالم، لا صوت فيه يعلو فوق صوت التضرع والخشوع.
من دلالات هذا اليوم الجليل أن المسلم يستطيع أن يتعايش مع غيره حتى في أضيق المساحات، فكما اجتمعوا في عرفات دون خصام أو جدال، يمكنهم أن ينقلوا هذه الروح إلى بلدانهم ومجتمعاتهم.
وقفة عرفات.. تذكير بيوم الحشر
إن الوقوف في عرفات يُذكّر بيوم البعث والنشور، حيث يجتمع الخلق على صعيد واحد، كلٌ يُناجي ربه، ويرجو رحمته. مشهد يجعل المسلم يتفكر في مصيره، ويجتهد ليخرج من عرفات نقي الصحيفة، طاهر القلب، كما ولدته أمه.
الالتزام والانضباط.. دروس من عرفة
من أبرز ما يُعلمه يوم عرفة هو الانضباط في الزمان والمكان، فكل شيء في وقته المحدد وبترتيبه المنضبط. من الوقوف، إلى الصلاة، إلى النفرة، وكل ذلك يُغرس في نفس المسلم روح الالتزام والجدية في أداء العبادات وسائر الأمور الحياتية.
صيام يوم عرفة.. تكفير لسنتين
أما لغير الحجاج، فصيام يوم عرفة له فضل عظيم، حيث قال النبي ﷺ:"صيام يوم عرفة يُكفّر السنة الماضية والسنة القادمة".وهو من أعظم الأعمال التي يُستحب الإكثار منها في العشر الأوائل من ذي الحجة.
عرفة... اليوم الذي اكتمل فيه الدين
يوم عرفة ليس كأي يوم، فهو اليوم الذي قال فيه الله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" [المائدة: 3]
إنه إعلان ختام التشريع، وإتمام الرسالة، وتجلي النعمة الكبرى على الأمة.
وقفة عرفات ليست فقط شعيرة دينية عظيمة، بل هي درس إنساني وأخلاقي واجتماعي عميق، يعلمنا التعايش والتراحم والالتزام والتوبة، ويُعيد تشكيل نظرتنا لأنفسنا ومجتمعاتنا.
اللهم تقبل من الحجاج حجهم، ومن الصائمين صيامهم، واغفر لنا ذنوبنا، وأعد علينا هذا اليوم ونحن أكثر توحدًا وتقوى.
يوم عرفة وغزة: حين يتلاقى السمو الروحي مع دلالات الانكسار
في يومٍ ترفرف فيه الأرواح نحو السماء، وتتعالى أصوات الحجاج بالتلبية على صعيد عرفات، ترتفع في غزة أصوات الألم والمعاناة، ويعلو صوت الصبر والمقاومة، في مشهدٍ يحمل من التناقض بقدر ما يحمل من الرمزية. يوم عرفة، يوم الرحمة والمغفرة والتجلي الإلهي، يتزامن هذا العام مع واحد من أكثر الفصول دموية في تاريخ غزة، حيث تُسحق الأرواح وتُقصف الأحياء، في ظل حصار خانق وعدوان مستمر.
صعيد عرفة.. وصعيد الدم في غزة
على جبل الرحمة، يبكي الحجاج تائبين، يرجون الله غفران الذنوب، فيما تبكي غزة شهداءها، جوعا، قهرا، ونزوحًا. ففي حين يجتمع المسلمون من شتى بقاع الأرض على صعيد واحد، يُحرم أهل غزة من أبسط مقومات الحياة، ويُطحنون تحت آلة الحرب.
هنا، تتجلى مفارقة قاسية: وقفة التوبة في عرفات، تقابلها وقفة العجز في غزة، حيث لا ماء ولا دواء، ولا أمن ولا مأوى. وبينما يُرفع الدعاء في عرفات "اللهم أعتق رقابنا من النار"، يُرفع في غزة: "اللهم أعتقنا من القهر والاحتلال والجوع".
من عرفة إلى غزة: هل من وحدة للمصير؟
وقفة عرفات تعلمنا التساوي والتعارف والتراحم، وتحثنا على نبذ العصبيات والانقسامات. لكن غزة، هذه البقعة الجريحة، تبدو وكأنها خارج هذا المشهد، تُركت لتواجه قدرها وحدها. وهنا تبرز دلالة الانكسار الكبرى: كيف لأمةٍ تجتمع في أعظم مناسكها على التوحيد، أن تترك شطرًا منها ممزقًا بين الركام؟
أليس التآخي الذي يعم عرفات يجب أن يُترجم دعمًا عمليًا لغزة؟ أليس من التناقض أن نطلب الرحمة في عرفات، ونحن نتخاذل عن نُصرة أهل فلسطين؟
دلالة الانكسار: أين هو الموقف؟
يوم عرفة يُذَكّر بيوم الحشر، يوم يقف البشر صفًا واحدًا، بلا تمايز. لكن غزة اليوم تقف وحيدة، تواجه الموت وحدها، تدافع عن كرامة الأمة بلا نصير فعلي. إنها دلالة الانكسار الجماعي، لا لغزة وحدها، بل لانهيار الوعي العربي والإسلامي.
هذه الدلالة تتجلى بوضوح حين تُقارن وحدة الحجيج في عرفات، مع تشرذم الأمة في التعامل مع القضية الفلسطينية، وكأن عرفات خُصّ بموسم الطقوس، وغزة خُصّت بموسم الجراح.
عرفات اختبار.. وغزة الشاهد
يوم عرفة ليس فقط يوماً للعبادة الفردية، بل هو يوم اختبار جماعي. هو يوم يقول فيه المسلمون: "لبيك اللهم لبيك"، فهل لبّينا صرخة غزة؟ هل سمعنا أنين أطفالها؟ هل لبّينا نداء إنسانيتها؟
غزة، في يوم عرفة، ليست مجرد بقعة تُقصف، بل مرآة تُعرض أمام ضمير الأمة، تضع الجميع أمام سؤال وجودي: ماذا تبقى من معاني الوحدة والمساواة والرحمة، إذا بقيت غزة تنزف وحدها؟
الدعاء لغزة.. فعل أم تبرير؟
صحيح أن يوم عرفة يوم دعاء، لكنه أيضًا يوم موقف، فالدعاء الحقيقي لا يُجدي إن لم يُقرن بعمل وسند ونصرة فعلية. والدعاء لغزة يجب ألا يكون بديلاً عن الوقوف معها في كل ساحات الدعم: سياسيًا، إعلاميًا، إنسانيًا، واقتصاديًا.
من عرفات إلى غزة.. رسالة مفتوحة
إذا كانت وقفة عرفة تعيد للمسلم نقاءه، فإن غزة تعيد له حقيقة معركته. هي وقفة تذكير، بأن العبادة لا تكتمل إن فُصلت عن الضمير الإنساني والموقف الأخلاقي. يوم عرفة يطهر القلب، وغزة تطهر النية، لأن من لا يحمل همها، لا يُدرك تمامًا معنى "لبيك اللهم لبيك".






