مصطفى إبراهيم يكتب: ها أنا أهمّ بالنزوح مرّة ثانية من غزّة

profile
أ. مصطفى إبراهيم كاتب ومحلل سياسي فلسطيني
  • clock 11 سبتمبر 2025, 11:59:08 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

كان عنوان هذا المقال في نسخته الأولى: “العودة إلى غزّة: حين لا تشبه المدينة وجهها القديم”، كتبته في 10/7/2026، لكنّني لم أنشره خشية أن تأتي هذه اللحظة المؤجّلة… لحظة النزوح مرّة أخرى، ويبدو أن القدر أصرّ على استدعائها، فالنزوح صار طقساً من طقوسنا في غزّة.

النزوح ليس مجرّد رحيل، بل هو انتزاع للروح من الجسد. كلّ خطوة فيه مثقلة بالعذاب والهواجس: ماذا نحمل معنا؟ وماذا نترك خلفنا من بطانيّات وفرش وأدوات؟ إلى أين نتّجه؟ والعالم من حولنا يراقب كأنه يشاهد رحلة تخييم عابرة. نصف غزّة اليوم تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي، فيما يلوح شبح الحسم الشامل في الأفق.

ونحن نستعدّ للنزوح القسري نحو جنوب القطاع، إلى المجهول، بعد أن دُمّرت بيوت عائلتي في رفح بالكامل، وتوزّع أشقّائي وشقيقاتي بين مواصي خان يونس، أما أنا فما زلت عاجزاً عن العثور على بيت أو حتى خيمة ألوذ إليها.

في الثاني من شباط/ فبراير الماضي، عدت إلى مدينتي غزّة بعد غياب دام ثمانية أشهر، عدت إلى مدينة كنت أظنّ أنني أعرفها عن ظهر قلب: شوارعها وأزقّتها، رائحة بحرها، وحتى وجوه ناسها المرهقين، لكنّني وجدت مدينة أخرى، مدينة تُشبه غزّة في الملامح العامّة، لكنّها تخونها في التفاصيل.
سرتُ في بعض الشوارع التي حسبت أنني لن أنساها أبداً، تعرّفت على بعضها، وتوهّمت ملامح أخرى، بينما بدا الباقي غريباً عني وكأنني غريب فيها، لا شيء على حاله… حتى الخراب تغيّر، حتى الألم اكتسب شكلاً جديداً.

لم تعد المدينة كما تركتها، وأنا أيضاً لم أعد كما كنت، فالألم والفقد والانهيارات التي مرّت بي خلال عامين من الخسارات المتتالية، جعلتني إنساناً آخر، وغزّة بدورها خلعت جلدها القديم وتلوّنت بالرماد.

غير أن الفقد الأكبر لم يكن في الحارات المهدّمة، ولا في البيوت المدمّرة، بل كان في داخلي… فقدتُ باسل، ابني البكر، النور الأوّل في حياتي. ترك وراءه زوجته وطفلتين صغيرتين بعينين واسعتين كأنهما ما زالتا تسألان: أين أبي؟

كلّ زاوية في غزّة تذكّرني به، بل كأن المدينة كلّها أصبحت صورته وظلّه، كنت أمشي فأراه يسير إلى جانبي، أسمع ضحكته، تلك الضحكة التي جمعت بين الجدّية والدفء، أراه جالساً أمام كوب القهوة الذي كان يعدّه بنفسه صباحاً، نتحدّث عن السياسة أو نترقّب مباراة برشلونة التي كان يعشقها.

لم يكن باسل مجرّد ابن لي، بل كان صديقي ورفيقي وصوت العقل في البيت، كان عاشقاً للبحر والسباحة، يركض مثل طفل سعيد كلما اقترب من الماء، وكان يكتب نصوصاً أدبية وتحليلات سياسية ناضجة، تعكس وعياً نادراً وموقفاً شجاعاً، مقالاته كانت امتداداً لتربيته الوطنية والإنسانية، ولإيمانه الراسخ بالوطن رغم الانكسارات.

لم يكن رحيل باسل هو الجرح الوحيد، بيتي أيضاً دُمّر. البيت الذي حملني وحمل أسرتي وذكرياتي لم يعد موجوداً، لم أستطع أن أزوره أو أرى مكانه، فالقلب لا يحتمل أن يشاهد ذاكرته محطّمة تحت الركام. 
تركت فيه كلّ شيء: صوري وأوراقي وكتبي وضحكات أطفالي، وأصوات المساءات الطويلة حين كنّا نتحلّق حول مائدة الطعام أو نتابع الأخبار، وحين كان باسل يضع فيروز ومارسيل خليفة على جهاز التسجيل، أو في مكبّر السيارة في الطريق إلى رفح، ويردّد قصيدة “أحمد العربي” لمحمود درويش.

ذلك البيت لم يكن جدراناً فقط، بل كان وطني الصغير الذي صنعته بيديّ، وكانت حارتي في الحيّ الراقي الجميلة الهادئة جزءاً منه. أما اليوم، فقد سُرق هدوؤها، وتحوّلت ملامحها إلى خطوط رمادية في ذاكرة مثقلة بالوجع.

واليوم، بعد كلّ هذا الزمن، ما زلت نازحاً، بلا بيت يؤويني، بلا جدران أعلّق عليها صورة أو حلماً مؤجّلاً. هذا النزوح داخل الوطن، داخل المدينة التي أنتمي إليها، هو أقسى ما يمكن أن يعيشه إنسان.

ومع ذلك، يتسلّل شيء صغير يشبه الأمل، ليس أملاً صاخباً، بل ذلك الضوء البعيد في آخر النفق، هو حبّنا لهذه الأرض الذي لم يُنتزع رغم كلّ الفقد، هو نظرة حفيدتي التي تحاول أن تفهم وتبتسم رغم غياب أبيها، هو البحر، حتى في حزنه، ما زال يمتدّ ويقول لنا: الحياة لم تنتهِ بعد.

نحن الباقون نحمل ذاكرة الذين رحلوا: بيوتهم وضحكاتهم وأصواتهم، ونمشي بها بين الركام، لا لننسى، بل لنتذكّر أن لنا هنا قصّة لم تنتهِ، وأن هذه الأرض، رغم كلّ شيء، ما زالت بيتنا.

واليوم نغادر غزّة مجدّداً، خلال ثمانية أشهر من العودة إليها، شعرنا بنوع من الاستقرار المؤقّت، حاولنا أن نؤسّس بيتاً في بيت ليس لنا، وأن نلملم ما تبقّى من أرواحنا، لكنّنا نُجبر اليوم مرّة أخرى على النزوح من مدينتي الجميلة، التي أحفظ شوارعها وحواريها وتاريخها وتراثها الحضاري والثقافي. 
لم أعد أرهق نفسي بالتفكير في ما هو قادم، فالقادم واضح: دولة الاحتلال ستحتلّ ما تبقّى من المدينة التي دُمّر نصفها، وما بقي منها ليس سوى أطلال وبيوت تُصارع السقوط.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
المصادر

موقع درج ميديا

التعليقات (0)