-
℃ 11 تركيا
-
12 يونيو 2025
الكوليرا تفتك بالسودانيين وسط انهيار شامل للخدمات
كارثة صامتة وأرقام مفزعة
الكوليرا تفتك بالسودانيين وسط انهيار شامل للخدمات
-
29 مايو 2025, 1:02:26 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
امرأة تغسل يديها خارج عيادة الكوليرا في القضارف، السودان.
متابعة: عمرو المصري
يشهد السودان موجة قاتلة من تفشي الكوليرا، تزامنًا مع أزمة إنسانية خانقة خلّفتها الحرب المستمرة منذ أكثر من عامين بين الجيش السوداني وميليشيات الدعم السريع. وتحوّلت العاصمة الخرطوم إلى بؤرة ملتهبة لتفشي الوباء، حيث سُجّل أكثر من 7700 إصابة مؤكدة منذ يناير 2025، بينها أكثر من ألف حالة في أطفال دون الخامسة، إلى جانب 185 حالة وفاة في ولاية الخرطوم وحدها، وفق بيان صدر عن منظمة اليونيسف.
الأرقام تتصاعد بوتيرة صادمة. فقد ارتفعت الحالات اليومية من 90 إلى 815 خلال عشرة أيام فقط بين 15 و25 مايو، وهو ما يعكس انهيار المنظومة الصحية وفقدان السيطرة على المرض في مناطق كانت تُعد سابقًا من أكثر مناطق البلاد كثافة سكانية وتنظيمًا.
انهيار الخدمات وغياب الحد الأدنى من الحياة
منذ بداية النزاع، فرّ أكثر من 3 ملايين شخص من منازلهم في ولاية الخرطوم، وعاد منهم مؤخراً نحو 34 ألفًا إلى مناطق شبه مدمّرة، خالية من البنية التحتية الأساسية، وفي مقدمتها المياه والصرف الصحي. هذه البيئة القاتلة وفّرت أرضًا خصبة لتفشي الأمراض المنقولة بالمياه، وعلى رأسها الكوليرا، التي تضرب الفئات الأكثر ضعفًا، وفي مقدمتها الأطفال.

الهجمات على محطات الكهرباء والمياه أدّت إلى شلل شبه كامل في الخدمات، ما دفع مئات الآلاف من السكان للاعتماد على مياه ملوثة من آبار سطحية أو النيل، وهي مصادر معروفة بخطورتها الصحية. وقد أكدت منظمة "أطباء بلا حدود" أن هذا الانهيار هو العامل الأبرز في الانتشار الوبائي، حيث استقبلت وحداتها ما يزيد عن 570 مريضًا بين 17 و21 مايو في أم درمان فقط، وسُجّل في يوم واحد – 21 مايو – 500 إصابة جديدة.
الخطر الأكبر: الأطفال وسوء التغذية
تتعمّق الكارثة مع ارتباط تفشي الكوليرا بسوء التغذية الحاد، خاصة لدى الأطفال الذين أضعفهم الجوع. وتشير التقديرات إلى أن 307,000 طفل يعانون من سوء التغذية الحاد في ولاية الخرطوم وحدها، بينهم 26,500 طفل في حالة خطرة تهدد حياتهم بشكل مباشر، حيث يمكن أن تؤدي نوبة إسهال واحدة إلى وفاة محققة دون علاج فوري.
"كل يوم يمر، يتعرض المزيد من الأطفال لهذا الخطر المزدوج"، بحسب شيلدون يت، ممثل اليونيسف في السودان، والذي شدد على أن الكوليرا وسوء التغذية يمكن الوقاية منهما وعلاجهما، "لكن فقط إذا استطعنا الوصول إلى الأطفال في الوقت المناسب".
الاستجابة الدولية: سباق مع الزمن
في ظل هذه الظروف الكارثية، تعمل اليونيسف وشركاؤها على تنفيذ استجابة طارئة، تشمل توفير المياه النظيفة عبر دعم تشغيل محطة مياه المنارة التي تخدم أكثر من مليون شخص، وتوزيع مواد تنقية المياه المنزلية، ونشر فرق تعقيم وتوعية مجتمعية.

كما سلّمت اليونيسف أكثر من 1.6 مليون جرعة من لقاح الكوليرا الفموي خلال العام الجاري، وتواصل تنفيذ حملات تطعيم عاجلة في المناطق المتضررة، إلى جانب دعم أكثر من 100 مركز لعلاج سوء التغذية في ولاية الخرطوم وحدها. لكن كل هذه الجهود لا تزال مهددة بالتوقف إذا لم يتوفر تمويل إضافي عاجل، إذ أعلنت المنظمة حاجتها إلى 3.2 مليون دولار بشكل فوري.
مراكز العزل: مشاهد صادمة ومعاناة فوق الاحتمال
في مستشفيات العاصمة، تتوالى الصور والفيديوهات التي توثق حجم المعاناة. نشطاء وثّقوا عبر مواقع التواصل وفاة 40 طفلًا خلال أيام في أم درمان وحدها. المرضى يُتركون على الأرض في مراكز العزل المتهالكة، وسط انعدام الأسرّة والأدوية، وتكدّس خانق دفع السلطات لنقل المرضى من مستشفى إلى آخر. وتزايدت المطالبات بإعلان حالة الطوارئ الصحية، وإغلاق المدارس والأسواق مؤقتًا لاحتواء التفشي.
الخرطوم تختنق.. والمجتمع الدولي مطالب بالتدخل
دقّ رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك ناقوس الخطر، مؤكّدًا أن الوباء يفتك يوميًا بحياة مئات السودانيين، داعيًا المجتمع الدولي إلى تحرك عاجل. "نحن أمام كارثة صحية شاملة"، قال في منشور على صفحته، مشيرًا إلى تدهور مريع في القطاع الصحي ونقص فادح في الدواء والمعدات الطبية.
منظمة "أطباء بلا حدود" أطلقت تحذيرات مماثلة، مؤكدة أن النقص الحاد في الكوادر الصحية والمستلزمات يجعل من المستحيل مواجهة الوباء في ظل الظروف الحالية، خاصة وأن غالبية المناطق المتأثرة تُعدّ من بين الأكثر ازدحامًا وفقراً.
السودان في قلب عاصفة أفريقية
المأساة السودانية لا تنفصل عن أزمة صحية شاملة تضرب القارة الإفريقية، حيث سُجّل حتى منتصف مايو أكثر من 115 ألف إصابة بالكوليرا، وأكثر من 2,400 وفاة. السودان، إلى جانب جنوب السودان، والكونغو الديمقراطية، وأنغولا، تتحمل العبء الأكبر من هذا الوباء، إذ تمثل هذه الدول وحدها 84% من الإصابات، و92% من الوفيات في إفريقيا.

ووفقًا لمراكز السيطرة على الأمراض في إفريقيا، فإن تردّي البنى التحتية، وصعوبة الوصول إلى المياه النقية، والتدهور المزمن في الأنظمة الصحية، كلها عوامل تُهدد بإطالة أمد الكارثة.
دعوة لا تحتمل التأجيل
الوضع في السودان لم يعد يحتمل التأجيل أو التراخي. إن كل ساعة تمر دون استجابة طارئة تعني أرواحًا تُزهق وأطفالًا يُدفنون قبل أن ينالوا حقهم في العلاج أو حتى الماء النظيف. الكوليرا، في النهاية، ليست مرضًا معقدًا. يمكن القضاء عليها – كما أكد خبراء اليونيسف – إذا توفرت الإرادة والموارد والسرعة.

لكن في ظل صمت رسمي، وشلل مؤسسي، وحرب لا يبدو لها أفق، تبقى الكوليرا مجرّد وجه آخر للفشل الكامل في حماية حياة الناس في السودان. فهل يستجيب العالم قبل أن تتحوّل الخرطوم – وسواها – إلى مقبرة جماعية لضحايا مرض كان يمكن احتواؤه؟








