-
℃ 11 تركيا
-
30 سبتمبر 2025
د.محمد الصاوي يكتب من الركام إلى مجلس السلام: واشنطن تطلق صفقة غزة الكبرى لمحاصرة المقاومة
د.محمد الصاوي يكتب من الركام إلى مجلس السلام: واشنطن تطلق صفقة غزة الكبرى لمحاصرة المقاومة
-
30 سبتمبر 2025, 3:10:59 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
بين الركام والانكسار، تُعيد الولايات المتحدة الأمريكية رسم خريطة غزة المستقبلية عبر “مجلس السلام”، محاولةً لإحكام السيطرة على القطاع وإعادة هندسة دوره السياسي والاقتصادي.
بينما يتكاثف الغبار فوق أطلال غزة بعد حربٍ استمرت عامين، يتسارع في الكواليس حراكٌ دبلوماسي مكثّف يُعرف باسم “صفقة غزة الكبرى”.
صفقة يُقدَّم للعالم بأنها حلٌّ نهائيٌ للأزمة الفلسطينية، لكنها في الواقع محاولةٌ لإعادة تشكيل الشرق الأوسط على أسسٍ جيوسياسية جديدة، تخدم التحالف الأمريكي–الإسرائيلي وتُقصي الرواية الفلسطينية من جوهر الحل، مع هدف صريح لمحاصرة المقاومة الفلسطينية وفرض هيمنة اقتصادية وسياسية.
من “صفقة القرن” إلى “صفقة الركام”
ما يُسمّى بـ”صفقة غزة الكبرى” يمثل الجيل الثاني من صفقة القرن، حيث تنتقل الرؤية الأمريكية من فرض تسوية سياسية إلى فرض هندسة عمرانية–اقتصادية مشروطة.
الركام هنا ليس نهاية الحرب، بل بدايةٌ لمشروعٍ سياسي يُراد له أن يُبنى على أنقاض المدينة المدمّرة.
الصفقة تربط إعادة الإعمار بمفهوم الحوكمة الدولية، وتقترح تشكيل إدارة أمنية متعددة الأطراف، بإشراف اقتصادي عربي–دولي، مقابل نزع سلاح المقاومة ودمج غزة في نظام إقليمي جديد.
الأخطر من ذلك هو ربط المشروع بممرٍّ بري تجاري يمتد من المتوسط إلى الخليج، ليكون بديلًا للممر الصيني–الإيراني، ما يجعل من غزة عقدةً لوجستية في سباق الممرات لا قضية وطنية قائمة بذاتها.
واشنطن وإعادة تدوير الفكرة القديمة
مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، عاد الخطاب الأمريكي الأكثر “صفقية” تجاه القضية الفلسطينية.
إدارة ترامب الجديدة تتعامل مع غزة بوصفها أزمة إنسانية تحتاج تمويلًا، لا قضية وطنية تحتاج حلاً سياسيًا.
“الإعمار مقابل السلام”.. هو الشعار الذي يخفي تحت بريقه منطق المقايضة على الحقوق والسيادة.
تتولى واشنطن دور “المنسق الاستراتيجي”، فيما يُناط بدول الخليج التمويل، وبمصر والأردن ضبط الحدود والأمن، بينما تحتفظ إسرائيل بحق الفيتو في كل التفاصيل.
هكذا تتحول الصفقة إلى نظام وصاية إقليمي يُدار من الخارج، يعيد إنتاج التبعية باسم التنمية.
“مجلس السلام”.. غطاء مؤسسي لشرعنة الصفقة
في خطابٍ وُصف بأنه “إعلان مرحلة جديدة”، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن تشكيل ما أسماه بـ”مجلس السلام”، برئاسته الشخصية وعضوية توني بلير وعدد من القادة السابقين، ليكون منصة دولية لإدارة مرحلة ما بعد حرب غزة.
تبدو الفكرة في ظاهرها مبادرة إنسانية لتنسيق جهود الإعمار، لكنها في جوهرها محاولة أمريكية لإنشاء آلية فوق وطنية تُقصي الفاعلين الفلسطينيين، وتمنح واشنطن تفويضًا لإدارة مستقبل القطاع تحت لافتة “السلام والتنمية”.
مجلس السلام هنا ليس هيئة وساطة، بل أداة ضبط استراتيجي، تسعى عبرها واشنطن لتوجيه مسار الإعمار والسيادة وفق أجندتها الخاصة.
إن استدعاء شخصيات مثل توني بلير — الذي مثّل سابقًا “اللجنة الرباعية” بعد أوسلو — يكشف نزعة أمريكية لإحياء نموذج الوصاية الغربية المقنّعة، حيث تُدار ملفات الشرق الأوسط من قبل “مجالس دولية” تخدم في النهاية بنية النفوذ الأنجلوساكسوني.
المجلس لا يضم أي تمثيل حقيقي من الداخل الفلسطيني، ولا من القوى الإقليمية التي دفعت ثمن الحرب، بل يضم نخبةً سياسية سابقة ترى في “السلام الاقتصادي” حلًّا جاهزًا، دون مساءلة لمرتكبي الانتهاكات أو ضمان لحقوق الضحايا.
بهذا، يُعيد المجلس إنتاج النموذج الليبرالي المتحيز ذاته الذي فشل في مناطق أخرى، لكنه يُقدّم الآن كحلٍّ أنيق لواقعٍ مأساوي صنعته آلة الحرب.
إسرائيل.. من الحرب إلى التوظيف السياسي
بعد عجزها عن تحقيق نصرٍ حاسم في حرب غزة، تسعى إسرائيل إلى تحويل الفشل العسكري إلى مكسب سياسي.
ترى في الركام فرصة لإعادة هيكلة القطاع بما يخدم مصالحها الأمنية، دون أن تتحمل عبء إدارته اليومية.
الطرح الإسرائيلي يقضي بإنشاء إدارة محلية فلسطينية بواجهة عربية، تخضع لرقابة أمنية إسرائيلية، وتُموَّل من المجتمع الدولي.
وهذا يفسر الإصرار الإسرائيلي على تدمير البنية التحتية، إذ يبرر إعادة الإعمار المشروط، ويفتح الباب لتدويل غزة باعتبارها “منطقة ما بعد سيادية” — مفهومٌ جديد يُختبر لأول مرة في الحالة الفلسطينية.
البعد الاقتصادي.. إعادة الإعمار كرافعة للنفوذ
الصفقة تقوم على معادلة بسيطة وخطيرة:
“التمويل مقابل التنازل”.
تسعى واشنطن لتجنيد مليارات الخليج لإعادة بناء القطاع، ولكن ضمن منظومة اقتصادية مرتبطة بإسرائيل، تجعلها مركز الطاقة والمياه والاتصالات في غزة.
بهذا، يتحول الإعمار إلى أداةٍ للضبط السياسي، تضمن استمرار التفوق الإسرائيلي وتعيد دمج غزة قسرًا في اقتصاد الاحتلال.
أما أوروبا، فتشارك بدور رمزي تحت لافتة “الاستقرار الإقليمي”، في وقتٍ تغيب فيه العدالة والمساءلة، وتُختزل القضية في مشاريع إسكان وتمويل.
الفشل الأخلاقي للنظام الدولي
تكشف “صفقة غزة الكبرى” عمق الأزمة الأخلاقية في النظام الدولي المعاصر.
فالصفقة تتجاهل الجرائم الإسرائيلية، وتكافئ المعتدي بإعادة دمجه في الإقليم، بينما تفرض على الضحية نموذج “السلام الاقتصادي” الخالي من السيادة.
ليست هذه الصفقة سوى فصلٍ جديد من تكرار النمط الأمريكي: من كامب ديفيد إلى أوسلو، ومن صفقة القرن إلى صفقة الركام.
والقبول العربي الضمني يجعل غزة ملفًا تفاوضيًا أكثر من كونه قضية قومية، وهو ما يفاقم من الأزمة ويزيد شعور الفلسطينيين بالإقصاء.
ما بعد الصفقة.. إرادة الشعوب أقوى من الركام
“صفقة غزة الكبرى” ليست مشروع سلام بقدر ما هي إعادة إنتاجٍ للهيمنة في ثوبٍ إنساني.
إنها محاولة لشرعنة نتائج الإبادة وتطبيع الركام باعتباره واقعًا لا مفرّ منه.
لكن ثمة متغير لا يمكن تجاوزه: الوعي الجمعي الفلسطيني الذي يدرك أن أي إعمار بلا سيادة هو استمرار للاحتلال بأدوات جديدة.
أخيراً وليس آخراً
قد يُكتب لهذه الصفقة أن تمرّ سياسيًا، لكنّها لن تنجح مجتمعيًا، لأن الشعوب التي قاومت تحت القصف لن تساوم تحت الركام.
الكلمات المفتاحية:
صفقة غزة الكبرى- صفقة القرن - إعادة إعمار غزة - الحرب على غزة 2023–2025 - دونالد ترامب - الولايات المتحدة الأمريكية - إسرائيل - المقاومة الفلسطينية - السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط - النفوذ الأمريكي في المنطقة - التطبيع العربي الإسرائيلي - ممرات الشرق الأوسط التجارية - الإقليم ما بعد الحرب - السلام الاقتصادي - الاحتلال الإسرائيلي - النظام الدولي - الأزمة الإنسانية في غزة - مستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي - إعادة الإعمار المشروطة - واشنطن وتل أبيب







