-
℃ 11 تركيا
-
5 سبتمبر 2025
د. لبيب جار الله المختار يكتبت/ المدارس الداخلية في بريطانيا منذ نشأتها: تاريخ وتطور وتأثير
د. لبيب جار الله المختار يكتبت/ المدارس الداخلية في بريطانيا منذ نشأتها: تاريخ وتطور وتأثير
-
4 سبتمبر 2025, 9:27:34 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تُعدّ المدارس الداخلية في بريطانيا من أبرز المؤسسات التعليمية التي لعبت دوراً محورياً في تشكيل النخب السياسية والاجتماعية والثقافية منذ العصور الوسطى وحتى يومنا هذا، فهي ليست مجرد أماكن لتلقي العلم، بل فضاءات متكاملة لصناعة الهوية وتكوين الشخصية وإعداد القادة ، ويقتضي الحديث عن المدارس الداخلية في بريطانيا تتبّع جذورها التاريخية، مروراً بمراحل تطورها، وصولاً إلى تأثيرها على المجتمع البريطاني وعلى العالم.
أولاً: النشأة في العصور الوسطى
بدأت البذور الأولى للمدارس الداخلية البريطانية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، متأثرة بالنظام الكنسي والتربوي في أوروبا المسيحية ، كانت الأديرة (Monasteries) بمثابة الحاضنة الأولى للتعليم الداخلي، إذ كان الطلاب يعيشون داخل أسوارها، يتعلمون علوم الدين واللغة اللاتينية وبعض المعارف الأساسية.
ومع مرور الوقت، ظهرت مدارس مرتبطة بالكاتدرائيات (Cathedral Schools)، مثل مدرسة سانت بول (St. Paul’s School) في لندن، التي تأسست عام 1509، وأصبحت نواة لفكرة المدرسة الداخلية بمعناها اللاحق.
وأن الهدف في البداية لم يكن تعليم عامة الشعب، بل إعداد رجال الدين والإدارة لخدمة الكنيسة والدولة ، وهكذا ارتبطت المدارس الداخلية منذ نشأتها بتكوين النخبة.
ثانياً: العصور الحديثة المبكرة (القرنان السادس عشر والسابع عشر)
شهدت إنجلترا في القرن السادس عشر تحولات عميقة بفعل الإصلاح الديني الذي أطلقه هنري الثامن ملك بريطانيا (1509–1547) ونتج عنه تأسيس الكنيسة الأنجليكانية ، أدى ذلك إلى إغلاق العديد من الأديرة، ما جعل الحاجة ماسة إلى تطوير مؤسسات تعليمية جديدة.
في هذا السياق، تأسست أو أعيد تنظيم مدارس عُرفت لاحقاً بـ المدارس العامة (Public Schools) مثل:
- وينشستر (Winchester College) التي تعود إلى عام 1382.
- إيتون (Eton College) عام 1440 (أسسها الملك هنري السادس، لكنها ازدهرت لاحقاً).
- هارو (Harrow School) عام 1572.
هذه المدارس كانت "داخلية" بمعنى أن الطلاب يعيشون ويدرسون داخلها، وتُعنى بتنشئة أبناء الطبقة الأرستقراطية، حيث تُغرس فيهم قيم الولاء، الانضباط، الثقافة الكلاسيكية، والتدريب الجسدي.
ثالثاً: العصر الكلاسيكي للمدارس الداخلية (القرن الثامن عشر والتاسع عشر)
يُعتبر القرن التاسع عشر العصر الذهبي للمدارس الداخلية البريطانية ، فقد ارتبط صعود الإمبراطورية البريطانية بالحاجة إلى تكوين نخب قادرة على الحكم والإدارة في المستعمرات.
1. المناهج والتربية
ركزت هذه المدارس على تعليم اللغات الكلاسيكية (اليونانية واللاتينية)، وعلم الرياضيات، والعلوم الأساسية، إلى جانب الرياضة البدنية التي عُدت ضرورية لتكوين "الرجولة المثالية" .
2. النظام الداخلي
كان النظام صارماً وعبارة عن طقوس يومية تبدأ بالصلوات، الانضباط العسكري، لباس موحّد، وتقاليد صارمة ، كما لعبت المباني السكنية الداخلية دوراً مهماً في بناء الانتماء والروح الجماعية.
3. إنتاج النخبة السياسية والإدارية
من هذه المدارس تخرّج معظم رؤساء الوزراء البريطانيين في القرن التاسع عشر، مثل وليم إيوارت جلادستون (Gladstone) الذي درس في إيتون، كما خرج منها كبار رجال الجيش والإدارة والدبلوماسية ، وبذلك أصبحت المدارس الداخلية بمثابة "مصانع نخب" للإمبراطورية.
رابعاً: الانتقادات والإصلاحات (القرن العشرون)
مع بدايات القرن العشرين، ومع انحسار الإمبراطورية، بدأت الانتقادات تطال المدارس الداخلية.
1. الانتقادات الاجتماعية
اتهمها البعض بأنها:
تُكرّس التفاوت الطبقي، إذ إن كلفتها الباهظة لا تسمح إلا لأبناء الأغنياء بالالتحاق بها ، بالاضافة الى أنها تزرع قيم الانعزال والبرجوازية، إذ يعيش الطلاب بعيداً عن المجتمع الحقيقي ، كذلك تفرض انضباطاً صارماً يصل أحياناً إلى العقوبات الجسدية القاسية.
2. الإصلاحات التربوية
مع النصف الثاني من القرن العشرين، بدأت هذه المدارس تدخل إصلاحات مثل:
- إدخال مناهج علمية حديثة.
- التخفيف من العقوبات البدنية.
- الانفتاح على الطبقة الوسطى عبر المنح الدراسية.
- السماح تدريجياً بالتحاق الفتيات في بعض المدارس (خاصة بعد السبعينيات).
3. التأثير الثقافي
رغم الانتقادات، ظلت هذه المدارس تخرج شخصيات بارزة مثل:
ونستون تشرشل (Winston Churchill) – رئيس وزراء بريطانيا – هارو.
جورج أورويل (George Orwell) – مؤلف رواية مزرعة الحيوان – إيتون.
ت. س. إليوت (T. S. Eliot) – التحق بأجواء شبيهة أثناء وجوده ببريطانيا.
خامساً: المدارس الداخلية في بريطانيا المعاصرة
في القرن الحادي والعشرين، ما زالت بريطانيا تضم أكثر من 500 مدرسة داخلية، تستقطب حوالي 70 ألف طالب، بينهم آلاف من الطلاب الأجانب، خاصة من آسيا والشرق الأوسط.
1. دورها التعليمي
ما تزال تعتبر خياراً مرموقاً لمن يسعى إلى تعليم عالي الجودة بالإضافة الى أنها
تتميز ببيئة متعددة الثقافات مع وجود طلاب دوليين ، كذلك فهي تركز حالياً على الابتكار التكنولوجي، التفكير النقدي، والأنشطة الإبداعية.
2. الكلفة والطبقية
رغم محاولات الانفتاح، تبقى الكلفة العالية (قد تصل إلى 40 ألف جنيه إسترليني سنوياً) عائقاً أمام الكثيرين ، وهذا ما يجعلها مرتبطة بالنخبة الثرية داخلياً ودولياً.
3. استمرار الجدل
يستمر الجدل في بريطانيا حول جدوى هذه المدارس: هل هي مصدر تميز علمي وثقافي، أم أداة لإدامة النخب الحاكمة؟
سادساً: التأثير العالمي للمدارس الداخلية البريطانية
لم يقتصر نفوذ المدارس الداخلية على بريطانيا فقط، بل امتد إلى العالم عبرعدة طرق ومنها :
1. المستعمرات البريطانية: حيث تأسست مدارس داخلية مشابهة في الهند، كينيا، هونغ كونغ، وغيرها.
2. النظام التعليمي العالمي: إذ أصبحت فكرة المدرسة الداخلية رمزاً للتعليم النخبوي، وتبنتها دول عديدة.
3. الخريجون الدوليون: آلاف الطلاب من الشرق الأوسط، خاصة من الخليج والعراق والأردن، التحقوا بهذه المدارس، ما جعلها جزءاً من شبكات النفوذ الدولي.
تُعدّ المدارس الداخلية في بريطانيا مؤسسة تعليمية فريدة، جمعت بين التعليم الأكاديمي والتنشئة الاجتماعية وإعداد القادة ، فمنذ نشأتها في كنف الأديرة والكنائس، مروراً بتحولها إلى "مصانع للنخب" في العصر الفيكتوري، وصولاً إلى دورها العالمي المعاصر، ظلت هذه المدارس انعكاساً للبنية الطبقية والسياسية والثقافية لبريطانيا.
ورغم الانتقادات المتعلقة بالطبقية والانغلاق، لا يمكن إنكار أنها أسهمت في صياغة هوية الإمبراطورية البريطانية وصناعة قيادات أثرت في مجرى التاريخ ، واليوم في عالم العولمة، تحاول هذه المدارس التكيّف عبر جذب طلاب من مختلف أنحاء العالم، محافظة على سمعتها كرمز للتعليم الراقي، وإن كانت محاطة دائماً بالجدل بين الإعجاب والانتقاد.









