-
℃ 11 تركيا
-
21 سبتمبر 2025
شاهد| تحقيق صادم لـ"BBC" عن الوجه المظلم لتجارة الجنس في دبي
شاهد| تحقيق صادم لـ"BBC" عن الوجه المظلم لتجارة الجنس في دبي
-
21 سبتمبر 2025, 12:01:17 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
بي بي سي
كشفت تحقيقات أجرتها هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) عن هوية رجل يقود شبكة جنسية تعمل من أرقى أحياء دبي وتستغل نساء ضعيفات. الرجل يُدعى تشارلز مويزيغوا، الذي يصف نفسه بأنه سائق حافلة سابق في لندن. وقد قال لمراسلنا المتخفي إنه قادر على توفير نساء لحفلات جنسية تبدأ أسعارها من ألف دولار، مشيراً إلى أن كثيراً منهن يمكن أن يقمن "بكل ما يريده الزبائن تقريباً". هذه الاعترافات لم تأتِ بمعزل عن سياق واسع من الشائعات التي أحاطت بدبي في السنوات الأخيرة.
ظلت الأحاديث تتواتر منذ سنوات عن حفلات جنسية صاخبة في الإمارة. حتى أن وسم #DubaiPortaPotty اجتاح تطبيق "تيك توك" وسجّل أكثر من 450 مليون مشاهدة، حيث ربط المستخدمون بينه وبين مقاطع هزلية أو تحقيقات زائفة تتهم مؤثرات على مواقع التواصل بتمويل أنماط حياتهن الباذخة عبر تلبية طلبات جنسية منحرفة. إلا أن ما كشفته التحقيقات جاء أكثر ظلمة وسواداً مما تصوّر كثيرون.
بحسب شهادات حصلت عليها BBC، فإن نساء شابات من أوغندا تعرضن لخديعة عندما جرى استدراجهن إلى دبي تحت وعود بالعمل في وظائف عادية مثل محال السوبرماركت أو الفنادق. غير أن الواقع انقلب عليهن ليجدن أنفسهن عالقات في شبكة مويزيغوا ومجبرات على العمل في الجنس. ويؤكد بعضهن أن بعض الزبائن كانوا يطلبون ممارسات مهينة تصل إلى التبول أو التبرز عليهن.
مويزيغوا بدوره ينفي هذه التهم بشكل قاطع، ويزعم أنه يكتفي بمساعدة النساء في العثور على سكن من خلال وسطاء عقاريين، مضيفاً أن الفتيات يتبعنه طواعية إلى الحفلات بسبب معارفه الأثرياء في دبي. ومع ذلك، كشفت التحقيقات عن سقوط امرأتين مرتبطتين بشبكته من شرفات أبراج عالية ووفاتهما، وهي وقائع رأت عائلات الضحايا أنها لم تُحقق كما يجب من قبل الشرطة.
موت غامض
من بين النساء اللواتي فقدن حياتهن كانت مونيك كارونغي، القادمة من غرب أوغندا. تشير إحدى الشاهدات التي نُسميها "كيرا" إلى أن مونيك أقامت معها في شقة كان يسكنها العشرات من النساء العاملات مع مويزيغوا خلال عام 2022. وصفت كيرا المشهد قائلة: "كان المكان أشبه بسوق… هناك نحو خمسين فتاة. ولم تكن مونيك سعيدة، لأن ما وجدته لم يكن ما وُعِدت به".
توضح أخت مونيك، وتُدعى ريتا، أن شقيقتها اعتقدت أن عملها في دبي سيكون في متجر بقالة. لكن سرعان ما اكتشفت أن الأمر مختلف تماماً. ومن جهتها، تروي "ميا" – إحدى الضحايا التي عرفَت مونيك هناك – أن مويزيغوا كان عنيفاً عندما طلبت العودة إلى بلدها. تضيف أنه عند وصولها إلى دبي، أخبرها الرجل بأنها مدينة له بمبلغ ألفي جنيه إسترليني، وخلال أسبوعين فقط تضاعف الدين.

نشأت مونيك مع 10 أشقاء فس ريف أوغندا
وفقاً لشهادتها، فإن المبلغ شمل تكاليف تذاكر الطيران، والتأشيرة، والإقامة، وحتى الطعام. وتقول ميا: "هذا يعني أنك مضطرة للعمل بجهد مرير، والتوسل إلى الرجال ليأتوا ويناموا معك". خلال أسابيع قليلة، تراكمت على مونيك ديون فاقت 27 ألف دولار، بحسب ما رواه أحد أقاربها الذي نُطلق عليه اسم "مايكل"، والذي أكد أنه تلقى منها رسائل صوتية باكية تشكو معاناتها.
تضيف ميا أن معظم الزبائن كانوا من الأوروبيين البيض، ومن بينهم رجال ذوو نزعات جنسية متطرفة. وروت بصوت خافت أن "هناك زبوناً واحداً يتبرز على الفتيات، ثم يأمرهن بأكل الفضلات".
شهادة أخرى لامرأة أسميناها "ليكسي" – تعرضت للخداع عبر شبكة أخرى – أكدت أن هذه الممارسات تُعرف باسم "Porta Potty" وكانت متكررة. إذ قالت إن أحد الزبائن عرض 15 ألف درهم إماراتي مقابل اغتصاب جماعي وبول في الوجه وضرب، مع إضافة 5 آلاف أخرى إذا تم تصويرها وهي تأكل البراز.
عذاب ليكسي
أفادت "ليكسي"، وهي شابة أوغندية أخرى وقعت في شبكة مختلفة لكنها واجهت نفس السيناريو، أن طلبات "Porta Potty" لم تكن حالات فردية بل تكررت كثيراً. أوضحت أن هناك عميلاً عرض عليها مبلغ 15 ألف درهم إماراتي، أي ما يعادل نحو أربعة آلاف دولار، مقابل أن تتعرض لاغتصاب جماعي، وإهانات جسدية تتضمن الضرب والتبول على وجهها. كما عرض إضافة خمسة آلاف درهم إذا سُجّلت وهي تأكل فضلات بشرية. بالنسبة إليها، لم تكن هذه مجرد تجربة صادمة، بل لحظة كشفت حجم الانحطاط الذي يُجبرن على الخضوع له.
ترى ليكسي أن هذا النوع من الانحرافات ليس مجرد صدفة، بل له بُعد عنصري واضح. تشرح أنها كلما رفضت المشاركة في هذه الممارسات، زاد إصرار الزبائن عليها. تقول إنهم كانوا يتعمدون اختيار فتاة سمراء اللون لتكون ضحية الصراخ والبكاء والمهانة. في نظرها، كان الألم جزءاً من "الاستعراض" الذي يريده هؤلاء الرجال الأثرياء.
وعندما حاولت ليكسي الهروب من هذا الجحيم، لجأت إلى الشرطة باعتبارها الجهة الوحيدة التي قد تنقذها. لكنها فوجئت، حسب قولها، ببرود قاسٍ. أخبرها الضباط: "أنتم الأفارقة تتسببون بالمشاكل لبعضكم البعض. لا نريد أن نتورط"، ثم أغلقوا الهاتف بوجهها. هذا الرد زاد من شعورها بالعجز وأكد أن المؤسسات الرسمية لم تكن ملاذاً لها.
بعد وقت طويل من الخوف، تمكنت ليكسي من الهرب والعودة إلى أوغندا. ومنذ ذلك الحين كرّست وقتها لمساعدة فتيات أخريات وقعن في نفس المصيدة. أصبحت قصتها وسيلة لفضح ما يجري في الظل، ورسالة إنذار لعشرات الأسر التي قد تُخدع بوعود عمل زائفة في الخليج. ومع ذلك، تظل الندوب النفسية التي تركتها التجربة عميقة.
تعقب مويزيغوا
تقول BBC إن العثور على تشارلز مويزيغوا لم يكن مهمة سهلة. إذ لم يجد المحققون سوى صورة واحدة له على الإنترنت، التُقطت من الخلف. الرجل كان يستخدم أسماء متعددة على حساباته في وسائل التواصل الاجتماعي، ما صعّب تتبعه. لكن عبر مزيج من مصادر مفتوحة، وأبحاث سرية، وشهادات عضو سابق في شبكته، تمكّن الفريق من الوصول إليه في حي متوسط الدخل يُعرف باسم قرية جميرا الدائرية.

أظهر مويسيجوا رخصة القيادة البريطانية وقال إنه كان سائق حافلة سابق في لندن
من أجل التحقق من روايات المصادر بشأن نشاطه، أرسل الفريق مراسلاً متخفياً انتحل شخصية منظم حفلات يبحث عن نساء لمناسبات نخبوية. خلال اللقاء، بدا مويزيغوا واثقاً وهادئاً وهو يتحدث عن "عمله". قال ببساطة: "لدينا حوالي 25 فتاة، كثير منهن منفتحات… يمكنهن القيام بكل شيء تقريباً". لم يتردد في عرض تفاصيل الخدمات وكأنها سلعة عادية معروضة للبيع.
أوضح مويزيغوا أن السعر يبدأ من ألف دولار لكل فتاة في الليلة، لكنه أضاف أن "الأشياء المجنونة" تكلف أكثر. كما دعا مراسلنا إلى ليلة "تجريبية"، في إشارة إلى أن نشاطه منظم ومتكرر. وعندما سُئل عن وسم "Dubai Porta Potty"، أجاب: "لقد قلت لك، الفتيات منفتحات. وعندما أقول منفتحات… سأرسل لك المجنونات منهن". هذه الإجابة أظهرت أن ما يجري أبعد بكثير من مجرد شائعات على الإنترنت.
وخلال الحديث، كشف مويزيغوا أنه كان في السابق يعمل سائق حافلة في لندن، وأنه دوّن ذلك في مستند رسمي عام 2006. لكنه أكد للمراسل أن عمله الجديد أصبح جزءاً من حياته لا يمكن التخلي عنه. قال: "حتى لو ربحت اليانصيب بمليون جنيه إسترليني، فسأظل أعمل في هذا المجال… لقد أصبح جزءاً مني". بهذا التصريح، بدا واضحاً أن الرجل لا يرى فيما يفعله جريمة، بل يعتبره "مهنة" رسّخت مكانته في دبي.
شهادة تروي
قدّم "تروي"، وهو رجل يقول إنه عمل سابقاً مديراً للعمليات في شبكة مويزيغوا، تفاصيل إضافية عن طريقة إدارة هذا النشاط. أوضح أن مويزيغوا كان يدفع رشاوى لحراس الأمن في بعض النوادي الليلية حتى يسمحوا لنسائه بالدخول بحثاً عن زبائن. بالنسبة لتروي، كانت طبيعة الأفعال الجنسية التي تُطلب من النساء صادمة للغاية، أشياء لم يسمع بها في حياته من قبل. لكنه قال إن كل شيء كان يهون في سبيل إرضاء الرجال الأثرياء الذين يدفعون الأموال الطائلة.

يقول تروي إنه كان يعمل سائقًا ثم مديرًا للعمليات لدى تشارلز مويسيجوا
أشار تروي إلى أن النساء لم يكنّ يملكن أي وسيلة للهروب. فقد كان يتم جرّهن إلى عالم محاط بمشاهير الموسيقى وكبار لاعبي كرة القدم وحتى بعض الشخصيات السياسية البارزة. هذا القرب من أصحاب النفوذ جعل الوضع أكثر خطورة، إذ بدا أن هؤلاء النساء محاصرات في شبكة لا مفر منها. يقول تروي إن كل شيء كان مدبراً بعناية كي لا يترك أي أثر يمكن أن يُدين مويزيغوا مباشرة.
ومن الحيل التي استخدمها مويزيغوا لتأمين نفسه، أنه كان يسجل عقود استئجار السيارات والشقق بأسماء موظفيه أو مساعديه، ومن بينهم تروي نفسه. وبهذا الشكل، لم يظهر اسمه مطلقاً في الأوراق الرسمية. ونتيجة لذلك، كان من الصعب على أي جهة تتبع نشاطه أو ربطه بشكل مباشر بما يجري. ويؤكد تروي أن هذه الخطة كانت السبب في بقاء الرجل بعيداً عن المساءلة رغم خطورة ما يقوم به.
إضافة إلى ذلك، وصف تروي الأجواء داخل هذه الشبكة بأنها كانت خالية من أي رحمة. النساء يُستغللن بلا رحمة، والرجال الأثرياء يُعاملون كملوك. "لقد سمعت عن أنواع من الجنس لم أرها في حياتي"، قال تروي، مضيفاً أن الغاية الوحيدة كانت إرضاء نزوات هؤلاء الأثرياء. بالنسبة له، كان الأمر بمثابة تجارة بشر مغلفة بمظاهر من الترف والرفاهية.
صدامات مونيك
في 27 أبريل 2022، نشرت مونيك كارونغي صورة سيلفي من منطقة البرشاء، وهي منطقة سكنية مفضلة بين المغتربين في دبي. وبعد أربعة أيام فقط، وُجدت جثتها أسفل شرفة شقتها. كانت قد قضت في الإمارة أربعة أشهر فقط. خلال هذه الفترة القصيرة، عاشت سلسلة من الخلافات المتكررة مع مويزيغوا، وفقاً لما ذكرته "ميا".

آخر صورة شخصية نشرتها مونيك قبل وفاتها
تقول ميا إن مونيك كانت ترفض الاستسلام لمطالبه، وإنها بدأت تبحث عن وسيلة للخروج من الشبكة. بدا الأمل يلوح في الأفق عندما عثرت على وظيفة "حقيقية" بعيداً عن عالم الجنس، وهو ما منحها شعوراً بالتحرر. تروي ميا أن مونيك كانت في غاية الحماس لأنها رأت في الوظيفة الجديدة فرصة لاستعادة حياتها. لكن هذا التحدي لم يكن ليُعجب مويزيغوا الذي اعتاد على إخضاع النساء.
انتقلت مونيك إلى شقة أخرى تبعد نحو عشر دقائق مشياً. لكن هذا الانتقال كان بداية النهاية. ففي الأول من مايو 2022، سقطت من شرفة تلك الشقة ولقيت حتفها. شهادات مقربين منها تؤكد أن الأيام التي سبقت سقوطها كانت مليئة بالتوتر والخوف، وأنها دخلت في جدالات حادة مع مويزيغوا. لم يكن أحد يتوقع أن تنتهي حياتها بهذه السرعة والغرابة.

برج ورسان في دبي، الذي سقط منه مونيك كارونجي في مايو 2022
يقول قريبها "مايكل"، الذي كان موجوداً في الإمارات عند وفاتها، إنه حاول معرفة الحقيقة من الشرطة. إلا أنهم أبلغوه بأن التحقيق أُغلق بعدما عثروا على مخدرات وكحول في الشقة التي سقطت منها مونيك، وأن بصماتها فقط كانت على الشرفة. ومع ذلك، لم يحصل مايكل على تقرير سموم أو حتى شهادة وفاة واضحة تحدد سبب موتها. بالنسبة له، بقيت الأسئلة بلا إجابة، وظل الغموض يلف الحادثة.
مواجهة مايكل ومويزيغوا
لم يكن مايكل مستعدًا لأن يترك وفاة ابنة عمته تمرّ في صمت. بعد أن أغلقت الشرطة ملف القضية بشكل بدا له متسرعًا، قرر أن يبحث بنفسه عن إجابات. كان مقتنعًا بأن مونيك لم تكن في حالة تسمح لها بإنهاء حياتها بهذه الطريقة، خصوصًا وأنها قبل أيام فقط كانت تتحدث عن بداية جديدة، ووظيفة مختلفة، ورغبة في استعادة حياتها بعيدًا عن دائرة الاستغلال. هذه القناعة جعلته يقترب أكثر من الرجل الذي ظل حاضرًا في كل تفاصيل مأساة مونيك: مويزيغوا.
واجه مايكل الرجل مباشرة، في حوارٍ اتسم بالتوتر والريبة. لم يكن يبحث عن اعتراف صريح بقدر ما كان يريد أن يرى ردود أفعاله، وأن يختبر ما إذا كان سيظهر عليه أي ارتباك أو خوف من المواجهة. لكن مويزيغوا بدا في تلك اللحظة مطمئنًا، وكأنه واثق من أن لا شيء يمكن أن يمسه. إنكاره كان قاطعًا، ومحاولاته للظهور بمظهر البريء زادت من شكوك مايكل بدلاً من أن تبددها. شعر مايكل أن أمامه شخصًا اعتاد على الهروب من المساءلة، وربما يملك شبكات حماية تجعله فوق الشبهات أو على الأقل بعيدًا عن دائرة العقاب. هذه المواجهة لم تمنح مايكل أدلة قانونية، لكنها رسّخت قناعته بأن مويزيغوا يظل الحلقة الأضعف والأقوى في آنٍ واحد: الأضعف لأنه محاط بالاتهامات، والأقوى لأنه يتصرف وكأن لا أحد قادر على محاسبته.
تكرار المأساة مع كيلا بيرونغي
بينما كان مايكل يسعى وراء خيوط جديدة، بدأ يتكشف أمامه فصل آخر أكثر خطورة. فحادثة مونيك لم تكن الأولى من نوعها، بل جاءت بعد عام واحد فقط من وفاة شابة أوغندية أخرى في دبي، هي كيلا بيرونغي. التفاصيل كانت متشابهة بشكل مثير للريبة: امرأة شابة، مهاجرة حديثًا، سقطت من شرفة شقتها في ظروف غامضة، ثم أُغلق التحقيق بسرعة مع نسب الوفاة إلى تعاطي الكحول أو المخدرات. بالنسبة لعائلة كيلا، كانت القصة منذ البداية غير مقنعة، لكنها لم تجد طريقًا لكشف الحقيقة وسط صمت السلطات وإغلاق الملف.

كما توفيت كايلا بيرونجي، وهي أوغندية أخرى، بعد سقوطها من مبنى شاهق في دبي.
التحقيقات الرسمية في قضية كيلا اكتفت بفرضية أن الوفاة مرتبطة بمواد مسكرة أو مؤثرات خارجية، لكن التقارير التي تمكنت جهات مستقلة من الاطلاع عليها لاحقًا أظهرت غياب أي أثر لمخدرات أو كحول في جسدها. التناقض بين ما أُعلن رسميًا وما كشفته الحقائق عزز الاعتقاد بأن هناك شيئًا ما يُخفى عن العلن. الأكثر خطورة أن الشهادات التي جمعتها BBC من نساء أخريات أشارت بوضوح إلى أن الشقة التي قضت فيها كيلا حياتها كانت تحت إدارة مويزيغوا، أو على الأقل ضمن الدائرة التي يتحكم بها. هذه المعلومة، التي تكررت على ألسنة أكثر من مصدر، جعلت الربط بين القضيتين يبدو طبيعيًا لا مصادفة.
أسئلة بلا إجابة
أمام هذا التشابه المقلق، لم يعد السؤال مقتصرًا على وفاة مونيك وحدها، بل أصبح أوسع: كم عدد النساء اللواتي انتهت حياتهن في ظروف غامضة مشابهة؟ ولماذا تتكرر نفس السيناريوهات دون أن تُفتح ملفات تحقيق جادة أو تُطرح علامات استفهام على من يقف وراءها؟ بالنسبة لعائلة مونيك وكيلا، بدا أن السلطات تسعى لإغلاق الملفات بسرعة بدلًا من تتبع الخيوط إلى نهايتها.

تقول عائلة مونيك في المناطق الريفية في أوغندا إن مونيك كان لديه دائمًا الطموح للسعي إلى حياة أفضل
هذه الوقائع ألقت الضوء على ظاهرة أكبر: وجود مسار غير رسمي ينقل النساء من أوغندا إلى الخليج، عبر وعود عمل مغرية سرعان ما تتحول إلى فخاخ للاستغلال. مونيك وكيلا لم تكونا سوى جزء من سلسلة ضحايا في شبكة تتجاوز الأفراد لتصل إلى أنماط منظمة من الإتجار بالنساء. الغموض الذي يلف القضيتين كشف في الوقت ذاته عن صمت رسمي يثير الريبة، وعن صعوبة عائلات الضحايا في الحصول على أبسط حقوقهم: تقرير سموم واضح، أو شهادة وفاة دقيقة، أو حتى تحقيق مستقل يحدد المسؤوليات.
أنبوب غير رسمي
لم تكن مونيك أو كيلا حالتين معزولتين، بل جزءًا من مشهد أكبر يتصل بما يشبه "أنبوبًا غير رسمي" يربط أوغندا بدول الخليج. هذا الأنبوب قائم على صناعة متنامية للهجرة بغرض العمل، تبدو في ظاهرها شرعية، لكنها في كثير من الأحيان تُخفي وراءها شبكات استغلال معقدة. آلاف الشابات الأوغنديات يتركن بلادهن كل عام بحثًا عن فرص عمل في المتاجر أو الفنادق أو المنازل، مدفوعات بأحلام تحسين أوضاعهن المالية ومساعدة أسرهن. لكن عند وصولهن، يجد بعضهن أنفسهن داخل دوامة من الإكراه والديون والاستغلال الجنسي. هذه الظاهرة لم تعد مجرد حوادث فردية، بل تحولت إلى قضية وطنية في أوغندا، حيث باتت الهجرة إلى الخليج مصدرًا أساسيًا للعملة الصعبة وفي الوقت نفسه مصدرًا لمعاناة إنسانية متزايدة.
الأرقام الرسمية تعكس هذا التناقض الحاد. فحسب تقديرات حكومية، تدرّ صناعة تصدير العمالة الأوغندية إلى الخارج ما يقرب من 1.2 مليار دولار سنويًا كإيرادات ضريبية للدولة. هذا المبلغ يجعل الحكومة مترددة في مواجهة الانتهاكات بشكل مباشر، لأنها ترى في هذه الهجرة منفذًا اقتصاديًا مهمًا وسط أزمة بطالة خانقة بين الشباب. لكن خلف هذه الأرقام اللامعة، هناك قصص مظلمة لا تجد طريقها إلى العلن إلا عبر أصوات الناجيات أو المنظمات الحقوقية. كثير من النساء اللواتي يسافرن واثقات من أنهن سيعملن في وظائف بسيطة كالبيع بالتجزئة أو التنظيف، ليتفاجأن بأن العقود الوهمية تقودهن إلى واقع من العبودية الحديثة.
صناعة مربحة وخطيرة
الحوافز المالية جعلت من هذه الصناعة واحدة من أسرع القطاعات نموًا في أوغندا. الوكالات التي تقدم نفسها كوسطاء للتوظيف صارت منتشرة في العاصمة كمبالا، وغالبًا ما تعمل بترخيص قانوني يمنحها غطاءً رسميًا. لكن الواقع مختلف تمامًا، إذ أن العديد من هذه الوكالات تعمل كواجهات لشبكات أكبر تمتد جذورها عبر دول الخليج، مستفيدة من ضعف الرقابة المحلية وتواطؤ بعض المسؤولين. هذه الوكالات تجني أرباحًا ضخمة عبر فرض رسوم عالية على السفر والتأشيرات والإقامة، مما يغرق النساء في ديون كبيرة منذ اليوم الأول. وبمجرد وصولهن، تُستخدم تلك الديون كأداة للسيطرة والإخضاع، حيث تُقال لهن إن عليهن العمل لسنوات لتسديد ما تراكم عليهن.
هذا النموذج لا يترك مجالًا للهرب. النساء يجدن أنفسهن في دائرة مغلقة: إن رفضن العمل يُهددن بالطرد والحرمان من جوازات سفرهن، وإن حاولن الاستغاثة بالشرطة، تُقابل شكواهن بالتجاهل أو التوبيخ. في حالات كثيرة، تُستخدم لغة عنصرية صريحة للتقليل من شأنهن، وهو ما يزيد من شعورهن بالعزلة واليأس. النتيجة أنهن يتحولن إلى ضحايا صامتات داخل نظام قائم على الربح السريع، دون أن يملك أحد القدرة أو الرغبة في حمايتهن.
أصوات مقاومة
وسط هذا المشهد المظلم، ظهرت مبادرات محلية في أوغندا تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه. الناشطة مريم مويزا، التي كرست سنوات من حياتها لمواجهة الاستغلال، قالت إنها ساعدت في إنقاذ أكثر من 700 شخص من دول الخليج خلال الأعوام الأخيرة. شهادتها تعكس حجم الكارثة، فهي تستقبل باستمرار نداءات استغاثة من نساء تم خداعهن بوعود عمل، ليجدن أنفسهن مجبرات على ممارسة الجنس تحت التهديد. مريم ترى أن ما يجري هو شكل من أشكال الاتجار بالبشر، وأن الحكومات في أوغندا والخليج تتحمل مسؤولية مباشرة لأنها تسمح لهذا النظام بالعمل دون محاسبة.
جهود الناشطين مثل مريم تواجه تحديات هائلة، فالشبكات أقوى من أن تُكسر بسهولة، والدعم الدولي لا يزال ضعيفًا. ومع ذلك، فإن هذه الأصوات تبقى بمثابة نافذة أمل للنساء اللواتي ما زلن عالقات في هذا الكابوس. قصص الإنقاذ التي تتحدث عنها مريم، رغم قلتها مقارنة بحجم المشكلة، تكشف أن هناك إمكانية للتغيير إذا وُجدت إرادة سياسية حقيقية. لكنها في الوقت نفسه تؤكد أن الاستغلال ليس استثناءً، بل هو جزء مدمج في المنظومة الاقتصادية للهجرة من أوغندا إلى الخليج.
خوف العائلات
بالنسبة لعائلات الضحايا، يختلط الحزن بالخوف. ففقدان مونيك أو كيلا لم يكن مجرد مأساة شخصية، بل إنهما أصبحتا رمزًا لمصير يمكن أن يتكرر مع أي فتاة أوغندية أخرى تغادر بلادها بحثًا عن فرصة. يقول مايكل، قريب مونيك، إن الجميع يركزون على موتها المأساوي، لكن السؤال الأهم يبقى: من يهتم بالنساء اللواتي ما زلن على قيد الحياة داخل هذه الشبكات؟ هذا الخوف يتجاوز حدود العائلة ليصبح قلقًا مجتمعيًا، لأن كل بيت في أوغندا تقريبًا يعرف فتاة سافرت أو تستعد للسفر إلى الخليج.
غياب الشفافية في التحقيقات، والتجاهل الرسمي، يجعل من هذه المخاوف أكثر واقعية. فالأهالي يعلمون أن أي خبر قد يأتيهم في لحظة، يخبرهم بأن ابنتهم سقطت من شرفة أو اختفت دون أثر. هذا الشعور الدائم بالتهديد يجعل المأساة ممتدة عبر الزمن، وكأنها لا تنتهي. في النهاية، يظل السؤال معلقًا: كم من الضحايا سيُضافن إلى القائمة قبل أن تتحرك الحكومات لوقف هذا الأنبوب غير الرسمي؟
إنكار مويزيغوا
حين واجهت BBC تشارلز "آبي" مويزيغوا بكل ما جمعته من شهادات واتهامات، كان رده مباشرًا: الإنكار التام. رفض الرجل الاعتراف بأي دور له في شبكة دعارة أو استغلال، واعتبر أن ما يُنسب إليه مجرد "اتهامات باطلة". قال إنه مجرد "شخص يحب الحفلات"، يجلس على طاولات الأغنياء وأصحاب النفوذ، وأن ذلك يجذب الفتيات نحوه بشكل طبيعي. في روايته، لم يكن الأمر أكثر من دائرة اجتماعية واسعة سمحت له بمعرفة عدد كبير من النساء، دون أي علاقة بشبكات غير قانونية. هذا التبرير بدا سطحيًا، لكنه يعكس في الوقت ذاته ثقة مويزيغوا بقدرته على الإفلات من أي مساءلة، كما لو أنه يردد نسخة محفوظة من خطاب دفاع معد سلفًا.
أضاف مويزيغوا أن وفاة مونيك لا علاقة له بها، مشيرًا إلى أنها كانت تحتفظ بجواز سفرها لحظة موتها، ما يعني - بحسبه - أنه لم يكن يطالبها بأي ديون أو يحجز حريتها. بل ذهب أبعد من ذلك، ليقول إنه لم يرها منذ أكثر من شهر قبل وفاتها. وفيما يخص كيلا، أكد أنها كانت تعيش مع مالك شقة آخر، نافياً أن تكون له أي صلة مباشرة بها أو بسقوطها المأساوي. بدا وكأن مويزيغوا يحرص على نفي صلته بكل تفصيلة، حتى مع تكرار ظهور اسمه في الشهادات والوثائق. هذه الاستراتيجية في الدفاع تعكس إدراكه لخطورة الموقف، لكنها في الوقت ذاته تكشف مدى هشاشة حججه أمام حجم الأدلة المتزايد.
تواطؤ الصمت
لم يكتفِ فريق التحقيق بأخذ أقوال مويزيغوا، بل حاول التأكد من الجانب الرسمي عبر التواصل مع شرطة دبي. أرسلت BBC طلبًا رسميًا إلى مركز شرطة البرشاء للاطلاع على ملفات قضيتي مونيك كارونغي وكيلا بيرونغي، إلا أن الرد لم يأتِ أبدًا. هذا الصمت لم يكن مجرد تجاهل عابر، بل بدا وكأنه جزء من سياسة منهجية تقوم على إغلاق الملفات المربكة بأسرع ما يمكن، وتجنب أي ضجة إعلامية قد تُسيء لصورة المدينة.
غياب الاستجابة الرسمية أثار تساؤلات إضافية: لماذا لا يتم الكشف عن تقارير السموم الخاصة بمونيك؟ ولماذا لم تُستدعَ الأطراف التي ارتبطت أسماؤها بالشقق التي وقعت فيها المآسي؟ بالنسبة لعائلات الضحايا، بدا أن الشرطة لا تريد الخوض في التفاصيل، وكأنها تفضل ترك الغموض قائمًا بدلًا من فتح ملفات قد تكشف شبكة أكبر من المتورطين. هذا التعتيم زاد من شعور العائلات بالعجز، وحوّل القضية إلى ندبة مفتوحة يصعب التئامها.
شكوك بلا نهاية
غياب أي شفافية من جانب السلطات جعل مهمة الصحفيين أكثر صعوبة، لكنه في الوقت ذاته كشف مدى هشاشة الخطاب الرسمي. فإذا كانت وفاة كيلا مرتبطة بالكحول والمخدرات كما قيل، فلماذا أظهر تقرير السموم أنها لم تكن تحت تأثير أي مادة؟ وإذا كانت مونيك قد انتحرت كما ورد في التحقيقات الأولية، فلماذا لم تُعرض نتائج دقيقة تؤكد ذلك؟ هذه الأسئلة لم تجد أي إجابة، بل ظلت معلقة في الهواء، تتناقلها العائلات والناشطون والناجيات من الشبكات.
موقف مويزيغوا المنكر لكل شيء لم يكن كافيًا لإغلاق الملف في عيون الرأي العام، بل على العكس، أعطى مزيدًا من الزخم لاعتبار أن هناك شيئًا أكبر يتم التستر عليه. ومع غياب الإرادة السياسية والإنسانية لفتح التحقيقات من جديد، باتت القصص الفردية للضحايا هي الصوت الوحيد الباقي، تُسرد عبر تسجيلات صوتية، أو شهادات باكية، أو مقالات صحفية. هذه الأصوات، رغم ضعفها، تفضح منظومة كاملة من الاستغلال والصمت والتواطؤ.
مأساة مستمرة
اليوم، بعد مرور سنوات على وفاة كيلا ومونيك، ما زالت الأسئلة تتكرر: كم عدد النساء اللواتي يواجهن المصير ذاته في دبي أو غيرها من مدن الخليج؟ ومن يربح من هذه التجارة التي تخلط بين وهم العمل وواقع العبودية الحديثة؟ بالنسبة لعائلات الضحايا، يبقى الحزن ممزوجًا بالخوف، خوف من أن تكون ابنة أخرى في طريقها لتكرار القصة نفسها. أما مويزيغوا، فلا يزال يعيش في دبي، يقدّم نفسه كـ"رجل حفلات"، ويواصل إنكار كل ما قيل عنه.
هكذا انتهى التحقيق الرسمي من جانب BBC، لكنه ترك وراءه ملفًا مفتوحًا لا يبدو أن أحدًا يرغب في إغلاقه بشكل عادل. الحقيقة غابت خلف جدران صمت السلطات وإنكار المتهم، بينما بقيت مقابر "المجهولين" في دبي شاهدة على ثمن بشري فادح تدفعه النساء المهاجرات. وبينما تتراكم القبور بلا أسماء، يتواصل نزيف الحكايات من أوغندا إلى الخليج، في أنبوب غير رسمي يبتلع أحلام الشابات ويحولها إلى كوابيس لا تنتهي.









