كيف لو كان هؤلاء لا يُدركون أنهم مرضى؟

هدى زوين تكتب: حين تمرض العقول... يُصاب الوطن

profile
  • clock 29 يوليو 2025, 7:17:13 م
  • eye 431
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
تعبيرية

في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث، وتتشابك فيه المصالح، يُصبح العقل السليم عملةً نادرة، ويغدو التفكير الرشيد حاجةً ملحّة لا ترفًا فكريًا. ولعلّنا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة إلى أن نعيد طرح سؤال بسيط لكنه بالغ الأثر: هل على المريض حرج؟

من الناحية الإنسانية، لا شك أن للمريض حقّ الرعاية والعذر، فالعقل إذا اختلّ، سقط عنه التكليف، وسقطت عنه المسؤولية. لكن، ماذا لو أصبحت العقول المريضة في قلب صناعة القرار؟ ماذا لو أمسكت هذه العقول بزمام الأمور، وتقدّمت الصفوف، ودخلت إلى قلب التنسيقيات، واللجان، والمجالس، تحت شعار “إصلاح الواقع” و“إعادة بناء الوطن”؟
هنا لا يعود السؤال عن الحرج، بل عن الكارثة.

لقد شهدنا في السنوات الأخيرة، تسلّل العديد من الشخصيات إلى مواقع المسؤولية، لا تملك من المؤهلات سوى الصوت المرتفع، ولا من الرؤية سوى الوهم، ولا من النوايا سوى تغليف المصالح الشخصية بشعارات وطنية. عقولٌ مشوشة، متضخمة، مأزومة، تصدّرت المشهد وهي تحمل أمراضًا فكرية لا تُرى بالعين المجردة، لكنها تُلمس في النتائج: التخبط، الفساد، التراجع، وانعدام الثقة.

إن أخطر ما يمكن أن يُبتلى به بلدٌ ما، هو أن تُدار مفاصله الحيوية من قبل أشخاص يعانون من فقرٍ في الفهم، وغرورٍ في الرؤية، وانفصالٍ عن نبض الشارع. هؤلاء لا يُنتجون حلولًا، بل يُنسقون للفشل. لا يُصلحون واقعًا، بل يعيدون تدوير الخراب. ويزعمون، في كل ظهور، أنهم أصحاب مشروع، وأمناء على “المفاهيم الواقعية”، لكن واقعهم لا يُشبه الواقع بشيء، بل هو امتداد لوهمٍ قديم في ثوبٍ جديد.

في خضمّ كل ذلك، تضيع المفاهيم، وتختلط الأولويات، ويُصبح بناء الوطن معلقًا بين مؤتمرات لا تنعقد، وخطط لا تُنفّذ، وتصريحات لا تُقنع. وتتحوّل كلمات مثل "الاستراتيجية"، و"الإصلاح"، و"النهضة" إلى مجرد مفردات فضفاضة، يتداولها مرضى النفوس وكأنهم أطباء الواقع.

فكيف لو كان هؤلاء لا يُدركون أنهم مرضى؟
هنا يصبح المرض مضاعفًا، إذ يجتمع فيه الغرور مع الجهل، والعناد مع اللاوعي، وتتحوّل السلطة إلى مرآة يكبر فيها المرض أكثر فأكثر، حتى يُصيب نسيج المجتمع كلّه.

ولعلّ الأخطر من كل ما سبق، أن هذه العقول المريضة تدخل إلى “الإطار التنسيقي” – لا بمعناه السياسي فقط، بل الثقافي والفكري والإعلامي أيضًا – وتحاول أن تعيد تعريف مفاهيم كالوطن، والولاء، والهوية، بما يتناسب مع حدودها الضيقة.
فتُصبح الوطنية مسايرة، والكرامة عنادًا، والنقد خيانة، والسكوت حكمة، والجهل "فهمًا بديلًا". وهكذا، يختنق الوعي، ويُجفّف منبعه، وتُحاصر العقول السليمة حتى تهمش أو تُسكت أو تُقصى.

لكن، رغم هذا الظلام، يبقى في الأفق بصيص نور.
فالعقل السليم لا يموت، والوعي الحقيقي لا يُطفأ. بل هو كالنهر، قد يُسدّ مجراه، لكنه لا يلبث أن يشقّ طريقه من جديد.
والأوطان، مهما طال ليلها، تعرف أبناءها الحقيقيين، أولئك الذين لا يهرولون إلى الكراسي، بل يحملونها مسؤولية، ولا يُراهنون على المصالح، بل على المبادئ.

في النهاية، نعود إلى سؤالنا الأول:
هل على المريض حرج؟
نعم، لكن حين يُترك المرض بلا علاج، ويُصبح المريض هو صاحب القرار، فالحرج لا يعود على الفرد فقط، بل على وطنٍ بأكمله.

وعلينا، إن كنا نريد بناء بلد، أن نُعيد الاعتبار للعقل السليم، وأن نُبعد عن مواقع التأثير كل عقل مريض، مهما علا صوته أو كثر أتباعه.
فالأوطان لا تُبنى بالأصوات المرتفعة، بل بالأفكار الواضحة.
ولا تُنهضها الشعارات، بل ترفعها القيم.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)